قرآنيات

التمثيل بالناعق


يقول سبحانه: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ (١) .

بيان المفردات:
النعيق: صوت الراعي لغنمه زجراً، يقال: نعق الراعي بالغنم، ينعق نعيقاً، إذا صاح بها زجراً. ويقال نعق الغراب: (إذا صوّت دون أن يمدّ عنقه، فإذا مدّ عنقه وحركها ثم صاح قيل: نغق (بالغين)).
والنداء: مصدر نادى ينادي مناداة، وهو أخص من الدعاء، ففيه الجهر بالصوت ونحوه، بخلاف الدعاء.
ملاحظة: يحتاج الإنسان في ارتباطه بالخارج دون شك إلى سبل، تسمّى سبل المعرفة. أهم هذه السبل العين والأُذن للرؤية والسماع، واللسان للسؤال.
لذلك، بعد أن تصف الآية هؤلاء بأنهم صم بكم عمي، تستنتج باستعمال فاء التفريع وتقول: ﴿فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾.
من هنا يقرر القرآن أن أساس العلوم العين والأُذن واللسان، العين والأُذن للفهم المباشر، واللسان لإِقامة الاِرتباط بالآخرين وكسب علومهم.

وفي بيان الآية وجوه:
الأوّل: أنّ الآية بصدد تشبيه الكافرين بالناعق الذي ينعق بالغنم، ولا يصح التشبيه عندئذٍ إلاّ إذا كان الناعق أصم، ويكون معنى الآية: أنّ الذين كفروا والذين لا يتفكرون في الدعوة الإلهية، كمثل الأصم الذي ينعق بما لا يسمع نفسه ولا يميز من مداليل نعاقه معنى معقولاً إلاّ دعاءً ونداءً وصوتاً بلا معنى.

بيان حقيقة التمثيل:
وجه التشبيه: أنّ الناعق أصم كما أنّ هؤلاء الكافرين صم بكم عمي لا يعقلون.
وفي هذا المعنى المشبه هم الكافرون الذين لا يفهمون من الدعوة النبوية إلاّ صوتاً ودعوة فارغة من المعنى.
والمشبه به: هو الناعق الأصم الذي ينعق بالغنم، ولكن لا يسمع من نعاقه إلاّ دعاءً ونداءً.
وهذا الوجه وإن كان ينطبق على ظاهر الآية، ولكنّه بعيد من حيث المعنى، إذ لو كان الهدف هو التركيز على أنّ الكافرين صم بكم عمي لا يعقلون لكفى تشبيههم بالحيوان الذي هو أيضاً كذلك، فما هو الوجه لتشبيههم بإنسان عاقل أخذ منه سمعه لا يسمع من نعاقه إلاّ صوتاً ونداءً؟
الثاني: إنّ المشبه هو النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والمشبه به هو الناعق للغنم، والمراد ومثلك أيها النبي في دعاء الذين كفروا كمثل الذي ينعق في البهائم التي لا تسمع من نعيقه إلاّ دعاءً ونداءً ما، فتنزجر بمجرد قرع الصوت سمعها من غير أن تعقل شيئاً، فهم ـ الكافرون ـ صمّ لا يسمعون كلاماً يفيدهم، وبكم لا يتكلمون بما ينفع، وعمي لا يبصرون، فهم لا يعقلون شيئاً، لأنّ الطرق المؤدية إلى التعقل موصدة عليهم.

ومن ذلك ظهر أنّ في الكلام قلباً أو عناية أخرى يعود إليه، فإنّ المثل بالذي ينعق بما لا يسمع إلاّ دعاءً ونداءً مثل الذي يدعوهم إلى الهدى لا مثل الكافرين المدعوين إلى الهدى، إلاّ أنّ الأوصاف الثلاثة التي استنتجت واستخرجت من المثل وذكرت بعده، وهي قوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾، لما كانت أوصافاً للذين كفروا لا لمن يدعوهم إلى الحقّ استوجب ذلك أن ينسب المثل إلى الذين كفروا لا إلى رسول الله تعالى فأنتج ما أشبه القلب (2) .
ثمّ إنّ صاحب المنار فسّر الآية على الوجه الأوّل وقال: ﴿وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أي صفتهم في تقليدهم لآبائهم ورؤسائهم كمثل الذي لا يسمع إلاّ دعاء ونداءً، أي كصفة الراعي للبهائم السائمة ينعق ويصيح بها في سوقها إلى المرعى ودعوتها إلى الماء وجزها عن الحمى، فتجيب دعوته وتنزجر بزجره بما ألفت من نعاقه بالتكرار. شبّه حالهم بحال الغنم مع الراعي يدعوها فتقبل، ويزجرها فتنزجر، وهي لا تعقل مما يقول شيئاً، ولا تفهم له معنى وإنّما تسمع أصواتاً تقبل لبعضها وتدبر للآخر بالتعويد، ولا تعقل سبباً للإقبال ولا للإدبار (3) .
يلاحظ عليه: أنّ الآية بصدد ذمهم وأنّهم لا يعتنقون الإيمان ولا يمتثلون الأوامر الإلهية ونواهيها، وعلى ذلك تصبح الآية نوع مدح لهم، لأنّهم لو كانوا كالبهائم السائمة يجيبون دعوة النبي كقبولها دعوة الراعي وينزجرون بزجره (صلى الله عليه وآله وسلم) كانتهائها عن نهي الراعي، فيكون ذلك على خلاف المقصود، فإنّ المقصود بشهادة قوله: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾، أنّهم لا يسمعون كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا ينطقون بالحقّ ولا ينظرون إلى آيات الله وأنّهم في واد والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في واد آخر. وأين هم من البهائم السائمة التي تقع تحت يد الراعي فتنتهي بنهيه؟! (4) .
ــــــــــــــــ
مجلة هدى القرآن العدد العشرون
(1) - سورة البقرة، الآية: ١٧١.
(2) - الميزان: ج١، ص٤٢٠.
(3) - تفسير المنار: ج٢، ص٩٣ ـ ٩٤.
(4) - أهم المصادر: مجمع البيان، الأمثل، الأمثال في القرآن.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة