علمٌ وفكر

العصمة بين الجبر والاختيار (1)


الشيخ محمد العبيدان

من الأمور التي تمسك بها القائلون بعدم ثبوت العصمة، مسألة عدم إمكان وجودها خارجاً عند أي انسان من البشر، لأن الإنسان المخلوق المركب من مجموعة من القوى والغرائز الشهوية، والذي له مجموعة من القوى الحسية والإدراكية، يصعب وجود ملكة تمنعه من ارتكاب الذنب وفعله.
ولقد خلت الكتب الكلامية القديمة من الحديث حول مسألة إمكان العصمة وعدمها، ولعل ذلك يعود لأنها لم تكن موضع نقاش وبحث عندهم، بل كانت في عصرهم من المسلمات الواضحة والجلية التي لم تحتج مزيد بحث، مع تعرضهم لكثير من الأمور المرتبطة بها، بخلاف اليوم، إذ ظهرت بعض الكتابات التي منعت ثبوتها، ولو في الجملة.

دليل عدم إمكان العصمة:
وعلى أي حال، فقد استند القائلون بعدم إمكانها إلى دليلين:
الأول: بشرية الإنسان، ومملكاته وغرائزه:
إن الإنسان المخلوق المركب من مجموعة من الغرائز والقوى الشهوية، والإرادة والاختيار، والقوى الإدراكية، والعقلية التي بها يكون قوامه وحقيقته، يصعب عليه أن يكون معصوماً من الخطأ والنسيان، لأن ذلك لا ينسجم مع إنسانيته التي تفرض أن يكون مختاراً في كل ما يصدر عنه من عمل وتصرف، ووجود الملكة المانعة من الخطأ والنسيان، تجعله مجبوراً في ما يقوم به وليس مختاراً.
ومن الواضح أن الأنبياء(ع)، لا يختلفون عن بقية البشر في الصفات، إلا بما أعطوه من وسائل تبليغ الرسالة، نعم لما كانوا أول المكلفين، صار سلوكهم أكثر مطابقة للشريعة من الآخرين، بحيث صار أسوة للآخرين. إلا أن الاقتداء بهم لا يعني عصمتهم كعصمة الملائكة[1].
وبالجملة، يقوم الدليل الأول على تشكيل قاس منطقي من الشكل الأول، كبراه، أن الإنسان لا ينفك بمقتضى بشريته وإنسانيته عن الخطأ والمعصية والذنب، وصغراه، أن الأنبياء بشر، فتكون النتيجة البناء على نفي العصمة عنهم.
ومن الواضح، أن الدليل المذكور يرتكز على تصور المنافاة بين العصمة والاختيار، لأن المستدل يعتقد أن العصمة تسلب من الإنسان إرادته الحرة، واختياره التي بها قواه وحقيقته، ولهذا قالوا بأنها لا تنسجم مع إنسانية الإنسان.

ويمكن الجواب عنها:
أولاً: إن الصغرى التي قام عليها الدليل وهي بشرية الأنبياء(ع) وإن كانت مسلمة، بل قد كان ذلك أحد الأسباب الرئيسة التي منعت القبول بنبوتهم، قال تعالى:- (إن أنتم إلا بشر مثلنا)[2]، إلا أن كونهم بشراً لا يعني عدم وجود خصوصية فيهم، فقد كانت لهم القابلية على الارتباط بالغيب، كما كانت لديهم اللياقة على تلقي الوحي، قال تعالى:- (إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ)[3]، فلا توجد ملازمة بين بشرية الإنسان وصدور الذنب والمعصية منه، فإن مجرد كونه متصفاً بالشهوات والغرائز لا يستوجب إقدامه على المعاصي والذنوب. نعم أقصى ما يفيده وجود الصفات البشرية عند الإنسان إمكان صدور ذلك منه، وليس تحققه ووقوعه في الخارج. ولذا نجد الكثير من الناس يعمد إلى ترك مجموعة من المحرمات، والذنوب، مع قدرته على الإتيان بها كالغيبة، والكذب، والاستماع إلى الغناء وما شابه، وهذا يعني أن وجود الخصائص البشرية عند الإنسان لا يسلب منه الاختيار في الإقدام على ما يود فعله وإتيانه. لأن وجود المقتضي للذنب عند الإنسان، لا يستوجب صدوره وحصوله منه.
ثانياً: إن من الخطأ توهم أن العصمة تعني القضاء على القوى الإنسانية، فلا يلزم من وصف شخص بها تجريده عن طبيعته الإنسانية، وسلب الصفات المقومة له في ذلك، وإنما العصمة كما قيل هي ملكة نفسانية تعطي كل قوة من القوى الإنسانية صورتها الكاملة والمناسبة لها، فالحاسة السامعة مثلاً تطلب من الإنسان الصوت الحسن، وليس الغناء، فيمكن للإنسان الإيمان بالصوت الحسن الموزون دون شائبة الحرام. والحاسة الباصرة تطلب منه النظر إلى المناظر الجميلة، وليس النظر للمناظر المحرمة، وغريزة البطن، تطلب منه الطعام الحلال، وليس الحرام، وهكذا.
ومما يؤيد ما ذكرناه بل يدل عليه، عدم انتفاء بقية التصرفات الأخرى الموجودة عند المعصوم(ع) نتيجة وجود العصمة، مثل الأكل والنوم، وغير ذلك.

الثاني: كلام الغزالي في إحياء العلوم:
فقد نص فيه على وجوب التوبة على الجميع، ومقتضى العموم المذكور شموله للأنبياء أيضاً خصوصاً بما عرفت سابقاً من أنهم بشر لا يمتازون على بقية البشر بشيء، فلو كان الأنبياء معصومين من الذنب والمعصية والخطأ والسهو والنسيان، لم تكن حاجة لتوبتهم، لأن التوبة كما هو معلوم لا تكون إلا من الخطأ والمعصية، وليست من شيء آخر. قال الغزالي: وليس في عالم الوجود آدمي إلا وشهوته سابقة على عقله، وغريزته التي هي عدة الشيطان متقدمة على غريزته التي هي عدة الملائكة، فكان الرجوع عما سبق إليه من مساعدة الشهوات ضرورياً في حق كل إنسان نبياً كان أو غبياً، فلا تظن أن هذه الضرورات اختصت بآدم(ع)[4].

ويجاب عنه، أولاً: من المعلوم أن الذنوب من المفاهيم المشككة، فقد يكون الفعل ذنباً لشخص، وليس كذلك لشخص آخر، وكما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. وعليه، لو سلم بأن المقصود من التوبة في كلام الغزالي معناها الاصطلاحي الخاص، وهو يعني العودة عن ارتكاب الذنب، فإن الذنوب المتصور صدورها من أصحاب العصمة، ليست كالذنوب الصادرة من عامة الناس، وإنما هي الإحساس بالتقصير في العبادة، أو الشعور بعدم أداء حق الله سبحانه من الشكر، وهكذا، وهذه ليست ذنوباً ومعاصي حقيقة كما هو واضح. وهذا نظير ما قيل في استغفارات المعصومين(ع)، فقد ذكر أنها تشير إلى عدم أداء حق الشكر لله سبحانه وتعالى على نعمه الكثيرة بما هو أهله وحقه.
ثانياً: إنما يصح الاستدلال بكلام الغزالي لو كان يقصد من كلامه التوبة بمعناها الشرعي والاصطلاحي، وهي التي تكون من الذنوب والمعاصي، وهو يلازم ارتكاب الحرام. أما لو كان مقصوده منها شيئاً آخر كما صرح بذلك، وأن المقصود من التوية المطلوبة من الجميع عبارة عن مرتبة عالية من التوبة، وأنها ضرورية للسالك إلى الله سبحانه وتعالى، فلن تكون منافية للعصمة.
ـــــــــــــ
[1] يستفاد هذا الدليل من كلام الكاتب المصري أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام ج 3 ص 229-230، وحسن حنفي في كتابه العقيدة والثورة ج 4 ص 187-191.
[2] سورة إبراهيم الآية رقم 10
[3] سورة إبراهيم الآية رقم 11.
[4] إحياء علوم الدين ج 4 ص 10-11.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة