مقالات

دعاء كُميل : لذَّةُ المُناجَاة ونظريَّة القارئ الضمني....!!؟

 

حسن الخليفة
شريحة من النص :
((...يا مَنْ اسمُهُ
دَواءْ
وذِكْرُهُ شِفَاءْ
وطَاعَتُهُ
غِنَىً...،
ارْحَمْ :
مَنْ رَأْسُ مَالِهِ
الرَجَاءْ
وسِلاحُهُ البُكَاءْ...))
* * *
ـــ التحليل :
ـــــــــــــــ
أ - الدخول إلى النص من :
1ـ الخارج :
نص نثري، ينتمي إلى نوع محدد من الأنواع الأدبية (الدعاء)، وهو ذو بنية لم يدرسها النقد الأدبي بما فيه الكفاية، حتى لتكاد أن تكون غفلًا في الدراسات الأدبية والنقدية التي بحثت النثر العربي مثلاً وحكمةً، خطبةً ومقامةً، حكايةً
ومقالةً، قصةً وروايةً، مسرحيةً...
فدراسة الدعاء بما هو قسيم لتلك الفنون النثرية يُعد فقيراً في تاريخ الدراسات العربية.
عصر النص : دعاء علَّمه الإمام علي (ع) إلى صاحبه كُميل بن زياد النخعي.
فهو من القرن الأول الهجري، وفي النصف الأول منه.
2ـ الداخل :
يعدُ دعاء كميل من النصوص النثرية الرائعة في تاريخ النصوص العربية على الإطلاق، وهو من أرقى ما وصلنا من نثر فني ينتمي إلى الدعاء، ومن أقدم تلك النصوص العربية الناضجة فنيًّا، والشاهدة على وجود فن من الفنون النثرية التي لا تقل أهمية عن روائع الشعر العربي في قمة مراحل نضجه، بل إن الفنون الأدبية شعرًا ونثرًا تفتقر لما في دعاء كميل من طاقة وجدانية مناجاتية هائلة، وقدرة على الغوص في النفس البشرية، وقراءة ضعفها، ومكامن قوتها، وطقوس تحولاتها، قراءةً بمرايا قرآنية تنعكس فيها النفس البشرية لتنكشف على ماهيتها وتشكلات تلك الماهية، جواهرها، أعراضها، مما لم يعرفه شعر أو نثر قبل نزول القرآن الكريم.
من أروع ما في دعاء كميل، أنه أقدم وثيقة إنسانية من نوعها في أدب الاعتراف، مع الالتفات إلى أن اعترافاتها متفردة بكونها استطاعت أن تخلص لقارئها الضمني الذي لا يشبهه قارئ أبدًا...؛ كونه الخالق المطلق، والمعبود الأحد، وما أدراك ما وثيقة استطاعت أن تعرف قارئها، وصدورها من المحدود نحو المطلق، وإخلاصها التام بالتوجه إليه بلا أدنى انزلاق نحو وهدة شرك في الخطاب، إنها الوثيقة الأصفى، والأنقى في قدرتها على الانصراف التام نحو المعبود.
من هنا _ كانت هذه المناجاة :
((...يا مَنْ اسمُهُ
دَواءْ
وذِكْرُهُ شِفَاءْ
وطَاعَتُهُ
غِنَىً...))
حيث استشعار العبد افتقاره التام إلى المعبود المطلق، فطاعته غنى، واسمه دواء، وذكره شفاء...، معاني يطول شرحها؛ كونها تصل ببلاغة الإيجاز حد الإعجاز وهي تكثِّف وصف العلاقة بين العبد والمعبود.
ولذلك كان هذا الاسترحام :
(( ارْحَمْ :
مَنْ رَأْسُ مَالِهِ
الرَجَاءْ
وسِلاحُهُ البُكَاءْ...))
فالرجاء، رجاء العبد العارف معنى العبودية ومقام الربوبية هو (رأس المال)، رأس المال الذي تاه عنه صاحب كتاب (رأس المال)...، وأي روعة في أدب الاعتراف حين يستشعر الإنسان محدوديته، ويترك كبرياءه، وأمراض ذلك التكبر والادعاء والبطر، والزهو والتفاخر، والتبجح بما لديه من مكاسب الدنيا على أشكالها من مال وعقل وعلم وجاه ومكانة وقوة وما يتكاثر به على أنداده من البشر...!؟
اعتراف بعد التخلي عن تلك المدعيات المحدودة يصاحبه التطلع نحو المطلق، من هذا الإنسان المعترف الذي لا يجد له من سلاح غير البكاء، بكاء كبكاء الأطفال، إلا أنه بكاء العرفان، بكاء الوجدان، بكاء الإنسان الذي يسعى إلى التكامل، إلى الانتصار على ضعفه، على فقره، على فاقته، حين يضع ذاته بين يدي المطلق، وينجذب إليه جذبة ارتقاء...، حينها يدرك معنى جديدًا للبكاء...!؟
 

ب ـ من دلالة الصرف إلى تصرفات الدلالة :
دعاء كميل كنز من الكنوز المعرفية، ودراسته تتطلب تحليل بناه ومستوياته اللغوية، لتوظيف ذلك التحليل في سبر أغواره واكتشاف منطوياته وكشوفاته الدلالية.
من مستويات البحث اللغوي ـ البحث الصرفي، وهو مما حاولته سالفًا، على أن نفسي تستحثني أن أطوي فيافي البنى المعجمية والصرفية والنحوية والبلاغية حتى الوصول إلى تحليل بنية النص في سياق وعيه للقارئ الضمني وهو يسجل رائعة من روائع أدب الاعتراف الإنساني المستبطن تشخيصا لخفايا النفس البشرية، لعذاباتها، و المضمِر سعيًا لعلاجها في الانتقال من عذاباتها إلى العذوبات التي تنتظره مع لذَّةُ المُناجَاة...!!؟

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة