من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

ثورة محمَّد "النفس الزكيّة"

الشيخ جعفر السبحاني

من الأحداث المهمّة في الأيّام الأخيرة من حياة الإمام الصّادق (عليه السَّلام)، والتي من المهم جدّاً أن يتّضح موقف الإمام تجاهها، هو قيام محمد النفس الزكية على حكم أبي جعفر المنصور الدوانيقي ثاني خلفاء بني العباس.

كان محمد الذي ينتسب من ناحية الأب إلى الإمام الحسن (عليه السَّلام)، ومن ناحية الأُم إلى الإمام الحسين (عليه السَّلام)، زاهداً عابداً ومن الصالحين، حتى لقِّب بالنفس الزكية، لما توارثه من صفات راقية عن أجداده، فقد كان من كبار بني هاشم وساداتهم، وكان شخصية فريدة وممتازة من ناحية تمتّعه بالصفات الحميدة والعالية، كالتقوى والعلم والشجاعة والوعي السياسي والكرم، ولم يكن باستطاعة النفس الزكية الذي ولد وتربّى في بيت الوحي والرسالة، أن يؤيد الحكومات الطاغية التي استولت على مقدّرات الأُمّة باسم الإسلام.

ومن هنا، بدأ تمرّده على الحكم الأموي في أيامه الأخيرة، وشكّل نواةً مركزيّةً لتقويضه وأخذ البيعة من مواليه وأصحابه لذلك.

وكان ممّن بايعه في ذلك الحين، أبو جعفر المنصور الذي تقلّد الخلافة فيما بعد، وتلطّخت يده بدمائه، كما سنشير إليه.

ومن الواضح أنّ بيعة المنصور له كانت بهدف إسقاط الحكم الأمويّ، ولتحقيق أهداف سياسية، ذلك أنّ محمد النفس الزكية كان شخصية سياسية واعية وبارزة، لم يكن للمنصور وأمثاله أن يكونوا بمستواه. ونظراً لهذه الخلفية، عندما أزال العباسيون الأمويين من على السلطة، وتقلّد أبو العباس السفاح الخلافة، لم يعترف محمد النفس الزكية وأخوه إبراهيم بشرعية خلافته، ولم يهنّئوه، وتواريا عن الأنظار.

كان النفس الزكية يرى نفسه جديراً بالخلافة، ويعتبر السفّاح غاصباً لها، وكان يعتقد أنّ على السفاح والمنصور أن يطيعاه بموجب بيعتهما له وليس العكس.

ولهذا كان أبو العباس قلقاً منهما، وكان يسأل أباهما عنهما، وذات مرّة، وقعت رسالة لمحمد يدعو فيها شخصيّة كبيرة لمناصرته في ثورته في يد السفّاح، ما زاد في توجّسه وقلقه، ومن حينها، بدأت الحياة السرية والعمليات الخفية للأخوين الثّائرين، وراحا ينظّمان حركتهما الثوريّة، ويعبّآن القوات المناهضة للسلطة الحاكمة؛ وقد زار في نهايات خلافة أبي العباس، أخوه ووليّ عهده أبو جعفر المنصور، المدينة العام 136 هـ، واستقبله كبار المدينة ووجهاؤها، وامتنع محمد وأخوه مع بقيّة بني هاشم عن ذلك؛ وعندما تقلَّد المنصور الخلافة، أخذ في البحث عنهما بشدّة، وراح يستجوب العلويّين الواحد تلو الآخر عنهما وعن أهدافهما، ولمّا باءت محاولته بالفشل، أعدّ جواسيس مدعومين بالمال والمراكب للحصول على أثر لهما؛ وقد جعل في العام 138هـ الفضل بن صالح أميراً على الحجّ، وأمره بالعثور على النفس الزكية وأخيه إبراهيم واعتقالهما.

دخل الفضل المدينة واستقبله الناس والحسنيّون ما عدا محمد وإبراهيم، وقد سأل أباهما عبد الله عن سبب غيابهما، فاعتذر بالنيابة عنهما، وقال: إنّهما منشغلان في الصيد واللّعب.

وقد حدثت بعد ذلك أحداث مهمّة جعلت المنصور يعبّئ قوّاته لمواجهتهما، وظلّ محمد بعيداً عن الضغط مؤقّتاً، واستغلّ ذلك لنشر دعوته وتعبئة قوّاته وإرسال مبعوثيه إلى المناطق المختلفة.

وبعد أن سيطر المنصور على الأُمور، وهدأت الأوضاع، ركّز جميع ضغوطه وقواته على الحجاز، حتى يمتلك زمام الأُمور فيها، بعد أن شاع عن انتشار دعوة النفس الزكية وحركته.

سافر المنصور تحت ذريعة الحجّ إلى الحجاز العام 140، وقد قرر خلال ذلك أن يقضي على محمد وعلى حركة العلويّين السياسيّة بشكل تامّ، ومهما كان، ولذلك راح يلتقي بكبار العلويّين وسياسيّيهم بعد دخوله المدينة، وأخذ يغدق عليهم بالأموال، وحاول أن يعرف مكان اختفاء محمد بالمال والتّهديد، وتحقيقاً لهذا الغرض، أحضر أباه عبد الله وضغط عليه وسأله عن مكان اختفائهما، فأجاب بعدم معرفته عن ذلك، وتبادلا كلمات جارحة فيما بينهما، وعندما أصرّ المنصور في كلامه، أجاب عبد الله بأنّه لو كان محمّد مختبئاً تحت قدمي، ما كنت أرفعها لتراه. استشاط المنصور غضباً من ذلك، وأمر باعتقاله هو وبعض من أهل بيته، وسجنوا لمدة ثلاث سنوات.

ومع كلّ ما قام به المنصور من ممارسات قمعية، لم ينجح في القضاء على انتفاضة النّفس الزكية، وبالرغم من أنَّ الأخير كان يعيش خارج المدينة متخفّياً، فانّ عدد أنصاره أخذ بالتزايد، وبدأت المدينة تتحوّل إلى ساحة للثّورة. وبعد فترة من النضال والجهاد ووقوع الكثير من الأحداث التي انتهت بانتصار محمّد ونجاحه، دخل محمد المدينة العام 145هجرية، وراح يأخذ البيعة لنفسه، وسيطر على الأُمور، في حين أنّ شروط نجاح الثورة لم تتوفّر بعد، ولم ينه قادته المبعوثين إلى إرجاء البلاد مهامهم.

وعلى أية حال، بدأت الثورة المسلمة باقتحام السّجن وتحرير السجناء؛ بعث المنصور جيشاً بقيادة أخيه عيسى لقمع تلك الثّورة، وسقطت المدينة بعد قتال مرير وحرب دامية وفشل الثوّار، وقتل محمد وكثير من أصحابه، وثار في تلك السنة أخوه إبراهيم في البصرة، ولم ينجح وقتل.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة