قرآنيات

فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا


﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾.


اللغة:
الرؤية هي إدراك الشيء بالبصر ونظيره الإبصار ثم تستعمل بمعنى العلم والتقلب والتحول والتصرف، نظائر وهو التحرك في الجهات ويقال وليتك القبلة أي صيرتك تستقبلها بوجهك وليس هذا المعنى في فعلت منه لأنك تقول وليت الدار فلا يكون فيه دلالة على أنك واجهتها ففعلت في هذه الكلمة ليس بمنقول من فعلت الذي هو وليت، وقد جاءت هذه الكلمة مستعملة على خلاف المقابلة والمواجهة في نحو قوله ويولون الدبر وقوله ويولوكم الأدبار فهذا منقول من قولهم داري تلي داره، تقول وليت ميامنه وولأني ميامنه مثل فرح وفرحته والرضا والمحبة نظيران وإنما يظهر الفرق بضديهما، فالمحبة ضدها البغض والرضا ضده السخط وهو يرجع إلى الإرادة، فإذا قيل رضي عنه فكأنه أراد تعظيمه وثوابه، وإذا قيل رضي عمله فكأنه أراد ذلك والسخط إرادة الانتقام ﴿شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي نحوه وتلقاءه قال الشاعر:
وقد أظلكم من شطر ثغركم  هول له ظلم يغشاكم قطعا
أي من نحو ثغركم وقال:
إن العسير بها داء يخامرها  فشطرها نظر العينين محسور
أي نحوها، قال الزجاج يقال هؤلاء القوم مشاطرونا أي دورهم تتصل بدورنا، كما يقال هؤلاء يناحوننا أي نحن نحوهم وهم نحونا، وقال صاحب العين شطر كل شيء نصفه، وشطره نحوه وقصده، ومنه المثل احلب حلبا لك شطره أي نصفه، وشطرت الشيء أي جعلته، والحرام المحرم كما أن الكتاب بمعنى المكتوب، والحساب بمعنى المحسوب، والحق وضع الشيء في موضعه إذا لم يكن فيه وجه من وجوه القبح، والغفلة هي السهو عن بعض الأشياء خاصة وإذا كان السهو عامًّا فهو فوق الغفلة لأن النائم لا يقال له غفل إلا مجازًا.


النزول:
قال المفسرون كانت الكعبة أحب القبلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، فقال لجبريل وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها فقال له جبريل عليه السلام إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربك فادع ربك وسله ثم ارتفع جبريل، وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأل ربه فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال.


المعنى:
﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ﴾ يا محمد...
﴿فِي السَّمَاء﴾ لانتظار الوحي في أمر القبلة وقيل في سبب تقليب النبي وجهه في السماء قولان (أحدهما) أنه كان وعد بتحويل القبلة عن بيت المقدس فكان يفعل ذلك انتظارًا وتوقعًا للموعود كما أن من انتظر شيئًا فإنه يجعل بصره إلى الجهة التي يتوقع وروده منها (والثاني) أنه كان يكره قبلة بيت المقدس ويهوى قبلة الكعبة وكان لا يسأل الله تعالى ذلك لأنه لا يجوز للأنبياء أن يسألوا الله تعالى شيئًا من غير أن يؤذن لهم فيه لأنه يجوز أن لا يكون فيه مصلحة فلا يجابون إلى ذلك فيكون فتنة لقومهم، واختلف في سبب إرادته تحويل القبلة إلى الكعبة فقيل لأن الكعبة كانت قبلة أبيه إبراهيم (عليه السلام) وقبلة آبائه عن ابن عباس، وقيل لأن اليهود قالوا يخالفنا محمد في ديننا ويتبع قبلتنا عن مجاهد، وقيل إن اليهود قالوا ما دري محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم عن ابن زيد، وقيل كانت العرب يحبون الكعبة ويعظمونها غاية التعظيم فكان في التوجه إليها استمالة لقلوبهم ليكونوا أحرص على الصلاة إليها وكان صلى الله عليه وآله وسلّم حريصًا على استدعائهم إلى الدين ويحتمل أن يكون إنما أحب ذلك لجميع هذه الوجوه إذ لا تنافي بينها...
وقوله ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ أي فلنصرفنك إلى قبلة تريدها وتحبها، وإنما أراد به محبة الطباع لا أنه كان يسخط القبلة الأولى...
﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي حول نفسك نحو المسجد الحرام لأن وجه الشيء نفسه، وقيل إنما ذكر الوجه لأن به يظهر التوجه وقال أبو علي الجبائي أراد بالشطر النصف فأمره الله تعالى بالتوجه إلى نصف المسجد الحرام حتى يكون مقابل الكعبة وهذا خطأ لأنه خلاف أقوال المفسرين...
﴿وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ أي أينما كنتم من الأرض في بر أو بحر أو سهل أو جبل فولوا وجوهكم نحوه، فالأول خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلّم وأهل المدينة (والثاني) خطاب لجميع أهل الآفاق ولو اقتصر على الأول لجاز أن يظن أن ذلك قبلتهم حسب، فبين سبحانه أنه قبلة لجميع المصلين في مشارق الأرض ومغاربها، وذكر أبو إسحاق الثعلبي في كتابه عن ابن عباس أنه قال البيت كله قبلة وقبلة البيت الباب والبيت قبلة أهل المسجد والمسجد قبلة أهل الحرم والحرم قبلة أهل الأرض كلها، وهذا موافق لما قاله أصحابنا أن الحرم قبلة من نأى عن الحرم من أهل الآفاق...

وقوله ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ﴾ أراد به علماء اليهود وقيل علماء اليهود والنصارى...
﴿لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ﴾ أي يعلمون أن تحويل القبلة إلى الكعبة حق مأمور به من ربهم، وإنما علموا ذلك لأنه كان في بشارة الأنبياء لهم أن يكون نبي من صفاته كذا وكذا وكان في صفاته أنه يصلي إلى القبلتين وروي أنهم قالوا عند التحويل ما أمرت بهذا يا محمد وإنما هو شيء تبتدعه من تلقاء نفسك مرة إلى هنا ومرة إلى هنا فأنزل الله تعالى هذه الآية وبين أنهم يعلمون خلاف ما يقولون...
﴿وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ أي ليس الله بغافل عما يعمل هؤلاء من كتمان صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم والمعاندة، ودل هذا على أن المراد بالآية قوم معدودون يجوز على مثلهم التواطؤ على الكذب وعلى أن يظهروا خلاف ما يبطنون، فأما الجمع العظيم فلا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب ولا يتأتى فيهم كلهم أن يظهروا خلاف ما يعلمون وهذه الآية ناسخة لفرض التوجه إلى بيت المقدس وقال ابن عباس أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا شأن القبلة، وقال قتادة نسخت هذه الآية ما قبلها، وقال جعفر بن مبشر هذا مما نسخ من السنة بالقرآن، وهذا هو الأقوى لأنه ليس في القرآن ما يدل على التعبد بالتوجه إلى بيت المقدس، ومن قال إنها نسخت قوله فأينما تولوا فثم وجه الله فإن هذه الآية عندنا مخصوصة بالنوافل في حال السفر روي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام وليست بمنسوخة واختلف الناس في صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إلى بيت المقدس، فقال قوم كان عليه السلام يصلي بمكة إلى الكعبة فلما هاجر إلى المدينة أمره الله تعالى أن يصلي إلى بيت المقدس ثم أعيد إلى الكعبة وقال قوم كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينها ولا يصلي في غير المكان الذي يمكن هذا فيه وقال قوم بل كان يصلي بمكة وبعد قدومه المدينة إلى بيت المقدس ولم يكن عليه أن يجعل الكعبة بينه وبينها ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة1.


1-تفسير مجمع البيان / العلامة الطبرسي قدة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد