قرآنيات

وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ


﴿وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِن صِيَام أَو صَدَقَة أَوْ نُسُك فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّام فِي الْحَجِّ وَسَبْعَة إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ واتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾


التّفسير
بعض أحكام الحجّ المهمّة:
لا يُعلم بدقّة تاريخ نزول الآيات المتعلّقة بالحجّ في القرآن الكريم، ولكن يرى بعض المفسّرين العظام أنّها نزلت في حجّة الوداع، في حين يرى بعضهم أنّ جملة (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) ناظرة إلى حادثة (الحديبيّة) الواقعة في السنّة السادسة للهجرة حيث منع المسلمون من زيارة بيت الله الحرام.
ففي هذه الآية ذُكرت أحكام كثيرة:
1- في مطلع الآية تأكيداً على أنّ أعمال العمرة والحجّ ينبغي أن تكون لله وطلب مرضاته فقط ﴿وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ﴾ من هنا لا ينبغي أن يشوب أعمال الحجّ نيّة أخرى غير الدافع الإلهي وكذلك الإتيان بالعمل العبادي هذا كاملاً وتامّاً بمقتضى جملة ﴿وَأَتِمُّواْ﴾.
2- ثمّ أنّ الآية تشير إلى الأشخاص الّذين لا يحالفهم التوفيق لأداء مناسك الحجّ والعمرة بعد لبس ثياب الإحرام بسبب المرض الشديد أو خوف العدو وأمثال ذلك، فتقول (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) فمثل هذا الشخص عليه أن يذبح ما تيّسر له من الهدي ويخرج بذلك من إحرامه.
وعلى كلّ حال فإنّ الأشخاص الّذين منعهم مانع ولم يتمكنّوا من أداء مراسم الحجّ والعمرة فيمكنهم بالاستفادة من هذه المسألة أن يحلّوا من إحرامهم.
ونعلم أيضاً أنّ الهدي يمكن أن يكون بعيراً أو بقرة أو خروفاً، وهذا الأخير أقلّ الهدي مؤنةً، ولهذا كانت جملة ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ﴾ تشير غالباً إلى الغنم.
3- ثمّ أنّ الآية الشريفة تشير إلى أمر آخر من مناسك الحجّ فتقول: ﴿وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾.
فهل أنّ هذا الأمر يتعلّق بالأشخاص المحصورين الممنوعين من أداء مراسم الحجّ، فهو بمثابة تكميل للأوامر السابقة، أو أنّه يشمل جميع الحجّاج؟ اختار بعض المفسّرين الرأي الأوّل وقالوا أنّ المراد من محل الهدي أي محل الأضحية هو الحرم.
وقال آخرون أنّ المراد هو المكان الّذي حصل فيه المانع والمزاحم ويستدلّ بفعل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في واقعة الحديبيّة الّتي هي مكان خارج الحرم المكّي، حيث أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد منع المشركين له ذبح هديه في ذلك المكان وأمر أصحابه أن يفعلوا ذلك أيضاً.
يقول المفسّر الكبير المرحوم الطبرسي: (ذهب علمائنا إلى أنّ المحصور إذا كان بسبب المرض فيجب عليه ذبح الأضحية في الحرم، وإذا كان بسبب منع الأعداء فيجب الذبح في نفس ذلك المكان الّذي مُنع به).
ولكنّ ذهب مفسرون آخرون إلى أنّ هذه الجملة ناظرة إلى جميع الحجّاج وتقول: لا يحقّ لأحد التقصير (حلق الرأس والخروج من الإحرام) إلاّ أن يذبح هديه في محلّه (ذبح الهدي في الحجّ يكون في منى وفي العمرة يكون في مكّة).
وعلى كلّ حال، فالمراد من بلوغ الهدي محلّه هو أن يصل الهدي إلى محل الذبح فيُذبح، وهذا التعبير كناية عن الذبح.
ومع الأخذ بنظر الاعتبار عموميّة التعبير الوارد في الآية الشريفة فالتفسير الثاني يكون أنسب ظاهراً بحيث يشمل المحصور وغير المحصور.
4- ثمّ تقول الآية ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِن صِيَام أَو صَدَقَة أَوْ نُسُك﴾ .
(نُسُك) في الأصل جمع (نسيكة) بمعنى حيوان مذبوح، وهذه المفردة جاءت بمعنى العبادة أيضاً ولهذا يقول الراغب في المفردات بعد أن فسّر النُسُك بالعبادة: هذا الإصطلاح يأتي في أعمال الحجّ و (نسيكة) بمعنى (ذبيحة).
ويرى بعض المفسّرين أيضاً أنّ الأصل في هذه الكلمة هو سبائك الفضّة، وقيل للعبادة (نُسُك) بسبب أنّها تطهّر الإنسان وتخلّصه من الشوائب.
وعلى أيّ حال فإنّ ظاهر الآية أنّ مثل هذا الشخص مخيّراً بين ثلاث أمور (الصوم والصدقة أو ذبح شاة).
والوارد في روايات أهل البيت عليهم السلام أنّ الصوم في هذا المورد يجب أن يكون ثلاثة أيّام والصّدقة على ستّة مساكين، وفي رواية أخرى على عشرة مساكين، وكلمة (نُسُك) تعني شاة.

5- ثمّ تضيف الآية ﴿فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي﴾ وهذه إشارة إلى أنّه يجب الذبح في حجّ التمتّع ويكون المكلّف في هذا الحجّ قد أتى بالعمرة قبله، ولا فرق في هذا الهدي بين أن يكون من الابل أو من البقر أو من الضّأن دون أن يخرج من الإحرام.
وحول الأصل في كلمة (الهدي) فهناك قولان حسب ما أورده المرحوم الطبرسي: الأوّل أنّه مأخوذ من (الهدية) وبما أنّ الأضحية هي في الواقع هديّة إلى بيت الله الحرام فقد اطلق عليها هذه الكلمة، والآخر أنها من مادّة (الهداية) لأن الحيوان المقرّر للذّبح يؤتى به مع الحاج إلى بيت الله الحرام، أو يكون هدايته إلى بيت الله.
ولكنّ ظاهر كلام الراغب في المفردات أنّه مأخوذ من الهديّة فقط فيقول: (هَدْي) جمع ومفرده (هديّة).
وقد أورد في معجم مقاييس اللغة أنّ لهذه الكلمة أصلان: الهداية والهديّة، ولكنّ لا يبعد أن تعود كليهما إلى الهداية، لأنّ الهديّة تعني الشيء الّذي يهدى إلى الشخص الآخر، أي يساق إليه هديّة (فتأمّل بدّقة).
6- ثمّ أنّ الآية تبيّن حكم الأشخاص غير قادرين على ذبح الهدي في حجّ التمتع فتقول: ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ .
فعلى هذا فلو لم يجد الإنسان أضحيةً أو أنّ وضعه المالي لا يطيق ذلك فيجب عليه جبران ذلك بصيام عشرة أيّام، يصوم ثلاثة أيّام منها (يوم السابع والثامن والتاسع من ذي الحجّة) في أيّام الحجّ- وهذه هي من الأيّام الّتي يجوز فيها الصوم في السفر- ويأتي بصيام سبعة أيّام بعد ذلك حين العودة إلى الوطن.
واضح أن مجموع ثلاثة أيّام في الحج وسبعة بعد الرجوع يساوي عشرة، لكنّ القرآن عاد فأكّد بأنّها عشرة كاملة.
بعض المفسّرين قال في تفسير هذه الجملة أن الواو تأتي للجمع وتأتي أحياناً للتخيير بمعنى (أو)، ومن أجل رفع توهّم التخيير أكّدت الآية على رقم عشرة، ويُحتمل أيضاً أن التعبير بكلمة (كاملة) إشارة إلى أنّ صوم الأيّام العشرة يحلّ محل الهدي بشكل كامل، ولهذا ينبغي للحجاج أن يطمأنّوا لذلك وأنّ جميع ما يترتّب على الأضحية من ثواب وبركة سوف يكون من نصيبهم أيضاً.
وقال بعضهم: إنّ هذا التعبير إشارة إلى نكتة لطيفة في العدد (عشرة) لأنّه من جانب أكمل الأعداد، لأنّ الأعداد تتصاعد من واحد يتصل إلى عشرة بشكل تكاملي، ثمّ بعد ذلك تترتّب من عشرة وأحد الأعداد الأخرى لتكون أحد عشر وإثنى عشر...
حتّى تصل إلى عشرين أي ضعف العدد عشرة ثمّ ثلاثين وهكذا.
7- ثمّ أنّ الآية الشريفة تتعرّض إلى بيان حكم آخر وتقول ﴿ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ فعلى هذا لا يكون لأهل مكّة أو الساكنين في أطرافها حجّ التمتّع، لأنّه يختصّ بالمسلمين خارج هذه المنطقة، فالمشهور بين الفقهاء أنّ كلّ شخص يبعد عن مكّة 48 ميلاً فإنّ وظيفته حجّ التمتّع، وأمّا إذا كان دون هذه المسافة فوظيفته حجّ القِران أو الإفراد والّذي تكون عمرته بعد الإتيان بمراسم الحجّ (وتفصيل هذا الموضوع وبيان مراتبه مذكور في الكتب الفقهيّة).
وبعد بيان هذه الأحكام السبعة تأمر الآية في ختامها بالتقوى وتقول ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ ولعلّ هذا التأكيد يعود إلى أنّ الحجّ عبادة إسلاميّة هامّة ولا ينبغي للمسلمين التّساهل في أداء مناسكه وأنّ ذلك سيؤدّي إلى اضرار كثيرة، وأحياناً يسبّب فساد الحجّ وزوال بركاته المهمّة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد