قرآنيات

معرفة لغة القرآن


الشهيد مرتضى مطهري ..

يظن بعضهم أن القصد من تلاوة القرآن هو قراءته طمعاً في الثواب دون إدراك شيء من معانيه. هؤلاء هم الذين "يختمون" القرآن مرات عديدة، ولكننا إذا سألنا أحدهم إن كان قد فهم معنى ما يقرأ فسوف يعجز عن الجواب، إن قراءة القرآن بقصد تفهم معانيه أمر لازم ومطلوب، لا بقصد الحصول على الثواب فقط.
إن لإدراك معاني القرآن مستلزمات لا بد من الاهتمام بها. إن ما يحصل عند القارئ الذي يريد تعلم كتاب ما، هو سلسلة من الافكار الجديدة لم تخطر له من قبل، فههنا يكون العقل وقوة فكر القارئ هما الفاعلان النشيطان. وفيما يتعلق بالقرآن يجب أن يكون التعلم والإدراك هما القصد من قراءته. والقرآن هو نفسه يقول: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَاب﴾.
إن واحدة من وظائف القرآن التعليم. وهنا يخاطب القرآن عقل الإنسان بلغة المنطق والاستدلال. ولكن للقرآن لغة أخرى لا يخاطب بها العقل، بل القلب، ويطلق على هذه اللغة الثانية اسم الإحساس. فمن يريد أن يتعرف على القرآن وأن يأنس به، عليه أن يعرف هاتين اللغتين، وأن يستفيد منهما معاً، إذ إن الفصل بينهما يؤدي إلى الخطأ، وسوء الفهم، وما هذا إلاّ خسران كبير.
إن ما نطلق عليه اسم القلب هو ذلك الإحساس العظيم والعميق الكامن في داخل الإنسان، وقد يطلقون عليه أيضاً اسم الإحساس بالوجود، أي ذلك الإحساس الذي يرتبط بالوجود المطلق. إن من يعرف التكلم بلغة القلب ويخاطب به الإنسان، فإنه يهزه من أعماق حياته وكنه وجوده، وعندئذ لا يكون العقل وحده تحت التأثير، بل الوجود بأكمله يكون متأثراً.
وإذا أردنا أن نضرب مثلاً للغة الإحساس، فإننا نضرب بالموسيقى مثلاً لذلك. فالموسيقى، على اختلاف أنواعها، تشترك في أمر واحد، وهو إنها تعالج إحساس الإنسان. إنها تهيج روح الإنسان وتغرقه في عالم خاص من المشاعر. وبالطبع تختلف أنواع الهيجانات باختلاف أنواع الموسيقى.

فقد يمتاز نوع بإثارته مشاعر البطولة والحماس، فهو يخاطب الإنسان بهذه اللغة. إنكم تعرفون أنهم يعزفون الموسيقى العسكرية والأناشيد خلال الحروب. إن تأثير هذه الموسيقى يكون أحياناً من القوة بحيث إن الجندي المرتعد خوفاً من العدو داخل خندقه، يندفع خارجاً متحدياً هجمات العدو ويقابله بالهجوم.
ونوع آخر من الموسيقى قد تثير أحاسيس الشهوة، فيرتخي الإنسان، ويرتمي في أحضان الشر. من الملاحظ أن هذا اللون من الموسيقى متفش وواسع الانتشار، ولعله أقدر من أي شيء آخر على هدم جدران العفة والأخلاق. وهكذا الأمر فيما يتعلق بالغرائز والمشاعر الأخرى، التي يمكن السيطرة عليها ووضعها تحت المراقبة، سواء عن طريق الموسيقى أو أية وسيلة أخرى.
إن من أرفع غرائز الإنسان وإحساساته هي حسه الديني، وفطرته في البحث عن الله. فتوجه القرآن يكون نحو مخاطبة هذا الحس الشريف السامي.
القرآن نفسه يوصينا أن نقرأه بلحن لطيف وجميل. إن هذا اللحن السماوي، هو اللحن الذي يخاطب به القرآن فطرة الإنسان الإلهية ويجتذبها إليه .
عند وصف القرآن ذاته يقول إنه يتكلم بلغتين، فهو مرة كتاب الفكر والمنطق الاستدلالي، ومرة أخرى كتاب المشاعر والعشق. وبعبارة أخرى، ليس القرآن غذاء العقل والفكر بحسب، بل هو غذاء الروح أيضاً.
والقرآن يؤكد موسيقاه الخاص توكيداً كبيراً. تلك الموسيقى التي يكون تأثيرها في استثارة مشاعر الإنسان العميقة والسامية أقوى من كل موسيقى. فالقرآن يطلب من المؤمنين أن يقضوا بعض ليلهم في تلاوته. وأن يقرأوه كذلك خلال الصلاة عند توجههم إلى الله. إنه يخاطب الرسول قائلاً: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ *  قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا﴾.

قم ناج ربك، ورتل القرآن في صلاتك. والترتيل يعني عدم الإسراع في القراءة لئلا تتداخل الكلمات فلا تفهم، وعدم الإبطاء إلى درجة فصم الرابط بين المعاني. يقول اقرأ القرآن بتأن وبتوجه إلى المعنى. ويضيف في آيات أخرى في السورة نفسها مخاطباً الناس: إذا ما ألجأتكم أعمالكم اليومية، كالتجارة والجهاد في سبيل الله. إلى فترة نوم أطول، فلا تنسوا خلوة العبادة.
إن السبب الوحيد الذي كان يزيد نشاط المسلمين، وقدرتهم الروحية، وخلوصهم، وصفاء بواطنهم، هو موسيقى القرآن. لقد أحال نداء القرآن، في فترة وجيزة، النفوس الخشنة الجافة في جزيرة العرب إلى مؤمنين ثابتة أقدامهم. تمكنوا من مصارعة أقوى سلطان زمانهم والقضاء عليهم. لم يكن المسلمون ينظرون إلى القرآن على أنه مجرد كتاب للدرس والتعليم فحسب، بل كانوا يرون فيه غذاء للروح، ومادة لكسب القوة وازدياد الإيمان. كانوا يتلونه أثناء الليل بنية خالصة.
يناجون ربهم، وفي النهار يهجمون على الأعداء كالأسود الضارية. ولقد كان القرآن يتوقع هذا من المؤمنين به. إذ يقول مخاطباً الرسول: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾.

إن قصة حياة الرسول نفسها مصداق لهذا القول. فهو بمفرده، وبغير سند، يرفع القرآن، ويبدأ ثورته، فيكون القرآن له كل شيء، يعد له الجند، ويهيئ السلاح والعدة، وأخيراً يجبر العدو على الخضوع والتسليم، ويجتذب أفراد العدو لينحنوا أمام رسول الله، وهكذا يفي الله بما وعد عندما يسمى القرآن لغته بلغة القلب، إنما يقصد ذلك القلب الذي يريد أن يصقله ويهذبه بآياته ويثيره. وهذه غير لغة الموسيقى التي تغذي أحياناً رغبات الإنسان الشهوانية. وهي كذلك غير لغة المارشات العسكرية والأناشيد الحربية التي يعزفونها في الجيش لاستثارة روح الحرب في الجنود، بل إنها تلك اللغة التي تجعل من أعراب البادية مجاهدين قيل فيهم: "حملوا بصائرهم على أسيافهم".
أولئك الذين وضعوا معارفهم ونظراتهم وأفكارهم النيرة ومداركهم الإلهية والمعنوية على أسيافهم التي شهروها في سبيل تلك المعتقدات. لم تكن لديهم منافع شخصية ولا مسائل فردية. وعلى الرغم من أنهم لم يكونوا معصومين من الخطأ، وكانت تصدر عنهم أخطاء. إلا أنهم كانوا يمثلون مصداق القول: "قائم الليل وصائم النهار". كانوا دائماً على ارتباط عميق بالوجود، فيقضون ليلهم بالعبادة ونهارهم بالجهاد.
فالقرآن بالنظر لخصوصيته في كونه كتاباً للقلب والروح، يثير الأشجان، ويسيل الدموع، ويهز الأفئدة. ويصدق هذا حتى على أصحاب الكتب الأخرى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا﴾.

ويؤكد في آية أخرى إن النصارى من أهل الكتاب أقرب إلى المسلمين من اليهود والمشركين: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى).
ثم يصف النصارى الذين يؤمنون عند سماع القرآن فيقول: ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾.
وعند الإشارة إلى المؤمنين عموماً. يصفهم هكذا: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾.
في هذه وفي كثير غيرها من الآيات (مثل الآية 58 من سورة مريم، والآيات الأولى من سورة الصف) يشير القرآن صراحة إلى أنه ليس كتاباً علمياً وتحليلياً فحسب. بل إنه في الوقت الذي يستفيد فيه من منطق الاستدلال كذلك يتحدث مع مشاعر البشر وأذواقهم، ويضع أرواحهم تحت تأثيره .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد