مقالات

صفات العباس

 

السيد عبد الرزاق المقرم .. 

لقد كان من عطف المولى سبحانه وتعالى على وليّه المقدّس، سلالة الخلافة الكبرى، سيّد الأوصياء، أن جمع فيه صفات الجلالة من بأس وشجاعة وإباء ونجدة، وخلال الجمال من سؤدد وكرم ودماثة في الخلق، وعطف على الضعيف، كُلّ ذلك من البهجة في المنظر ووضاءة في المحيا من ثغر باسم ووجه طلق تتموّج عليه أمواه الحسن، ويطفح عليه رواء الجمال، وعلى أسرة جبهته أنوار الإيمان، كما كانت تعبق من أعراقه فوائح المجد، متأرّجة من طيب العنصر.
ولمّا تطابق فيه الجمالان الصوري والمعنوي قيل له: " قمر بني هاشم "، حيث كان يشوء بجماله كُلّ جميل، وينذ بطلاوة منظره كُلّ أحد، حتّى كأنّه الفذّ في عالم البهاء، والوحيد في دنياه، كالقمر الفائق بنوره أشعة النجوم، وهذا هو حديث الرواة: " كان العبّاس رجلاً وسيماً جميلاً، يركب الفرس المطهّم ورجلاه تخطان في الأرض، وكان يقال له: قمر بني هاشم " .
وقد وصفته الرواية المحكية في مقاتل الطالبيين بأن " بين عينيه أثر السجود "، ونصّها: " قال المدائني: حدّثني أبو غسّان هارون بن سعد، عن القاسم بن الأصبغ ابن نباتة، قال: رأيت رجلاً من بني أبان بن دارم أسود الوجه، وكنت أعرفه جميلاً شديد البياض، فقلت له: ما كدت أعرفك؟ قال: إنّي قتلت شاباً أمرد مع الحسين، بين عينيه أثر السجود، فما نمت ليلة منذ قتلته إلاّ أتاني، فيأخذ بتلابيبي حتّى يأتي جهنم، فيدفعني فيها، فأصيح فما يبقى في الحي إلاّ سمع صياحي. قال: والمقتول هو العبّاس بن علي (عليه السلام) " .
وروى سبط ابن الجوزي عن هشام بن محمّد، عن القاسم بن الأصبغ المجاشعي قال: " لما أُتي بالرؤوس إلى الكوفة، وإذا بفارس أحسن الناس وجهاً قد علق في لبب فرسه رأس غلام أمرد، كأنّه القمر ليلة تمّه، والفرس يمرح، فإذا طأطأ رأسه لحق الرأس بالأرض، فقلت: رأس من هذا؟ قال: رأس العبّاس بن علي، قلت: ومن أنت؟ قال: حرملة بن الكاهل الأسدي .
قال: فلبثت أياماً وإذا بحرملة وجهه أشدّ سواداً من القار، فقلت: رأيتك يوم حملت الرأس وما في العرب أنظر وجهاً منك، وما أرى اليوم أقبح ولا أسود وجهاً منك؟ فبكى وقال: واللّه منذ حملت الرأس وإلى اليوم ما تمرّ عليَّ ليلة إلاّ واثنان يأخذان بضبعي، ثُمّ ينتهيان بي إلى نار تؤجّج، فيدفعاني فيها وأنا أنكص، فتسفعني كما ترى، ثُمّ مات على أقبح حال " .
ويمنع الإذعان بما في الروايتين من تعريف المقتول بأنّه العبّاس بن علي (عليه السلام)، عدم الالتئام مع كونه شاباً أمرد، فإنّ للعباس يوم قتله أربعاً وثلاثين سنة، والعادة قاضيّة بعدم كون مثله أمرد، ولم ينصّ التاريخ على كونه كقيس بن سعد ابن عبادة لا طاقة شعر في وجهه.
وفي دار السلام للعلاّمة النوري ج1 ص114 والكبريت الأحمر ج3 ص52 ما يشهد للاستبعاد، وإصلاحه كما في كتاب " قمر بني هاشم " ص126 بأنّه رأس العبّاس الأصغر بلا قرينة، مع الشكّ في حضوره الطفّ وشهادته، وهذا كإصلاحه بتقدير المقتول: " أخ العبّاس " المنطبق على عثمان الذي له يوم قتله إحدى وعشرين سنة، أو محمّد بن العبّاس المستشهد على رواية ابن شهر آشوب، فإنّ كُلّ ذلك من الاجتهاد البحت.
ولعلّ النظرة الصادقة فيما رواه الصدوق منضماً إلى رواية ابن جرير الطبري تساعد على كون المقتول حبيب بن مظاهر.
قال الصدوق: " وبهذا الإسناد عن عمرو بن سعيد، عن القاسم بن الأصبغ ابن نباتة، قال: قدم علينا رجل من بني أبان بن دارم ممّن شهد قتل الحسين، وكان رجلاً جميلاً شديد البياض، فقلت له: ما كدت أعرفك لتغير لونك؟ قال: قتلت رجلاً من أصحاب الحسين، يبصر بين عينيه أثر السجود وجئت برأسه.
فقال القاسم: لقد رأيته على فرس له مرحاً، وقد علّق الرأس بلبانها، وهو يصيبه بركبتيه، قال: فقلت لأبي: لو أنّه رفع الرأس قليلاً، أما ترى ما تصنع به الفرس بيديها؟ فقال: يا بني ما يصنع به أشد، لقد حدّثني قال: ما نمت ليلة منذ قتلته إلاّ أتاني في منامي حتّى يأخذ بكتفي فيقودني ويقول: انطلق، فينطلق بي إلى جهنم، فيقذف بي، فأصيح، قال: فسمعت جارة له قالت: ما يدعنا ننام شيئاً من الليل من صياحه، قال: فقمت في شباب من الحي فأتينا امرأته فسألناها فقالت: قد أبدى على نفسه قد صدقكم " .
وقد اتفقت هذه الروايات الثلاث في الحكاية عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة بما فعل بالرأس الطاهر.
وتفيدنا رواية الصدوق أنّ المقتول رجل لا شاب، وأنّه من أصحاب الحسين (عليه السلام)، ولا إشكال فيها، وإذا وافقنا ابن جرير على أنّ الرأس المعلّق هو رأس حبيب بن مظاهر ـ في حين أنّ المؤرّخين لم يذكروا هذه الفعلة بغيره من الرؤوس الطاهرة ـ أمكننا أن ننسب الاشتباه إلى الروايتين السابقتين، خصوصاً بعد ملاحظة ذلك الاستبعاد بالنسبة إلى العبّاس، وتوقّف التصحيح فيهما على الاجتهاد بلا قرينة واضحة.

قال ابن جرير في ج6 ص252 من التاريخ: " وقاتل قتالاً شديداً، فحمل عليه رجل من بني تميم فضربه بالسيف على رأسه فقتله، وكان يقال له: بديل بن صريم من بني عقفان، وحمل عليه آخر من بني تميم فطعنه، فوقع، فذهب ليقوم، فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف، فوقع، ونزل إليه التميمي فاحتز رأسه، فقال له الحصين: إنّي لشريكك في قتله! فقال الآخر: واللّه ما قتله غيري! فقال الحصين: أعطنيه أُعقله في عنق فرسي كيما يرى الناس ويعلموا أني شركت في قتله، ثُمّ خذه أنت بعد فامض به إلى عبيد اللّه بن زياد، فلا حاجة لي فيما تعطاه على قتلك إياه، فأبى عليه، فأصلح قومه فيما بينهما على هذا، فرفع إليه رأس حبيب بن مظاهر، فجال به في العسكر، قد علّقه في عنق فرسه، ثُمّ دفعه بعد ذلك إليه، فلمّا رجعوا إلى الكوفة أخذ الآخر رأس حبيباً فعلّقه في لبان فرسه، ثُمّ أقبل به إلى ابن زياد في القصر، فبصر به ابنه القاسم بن حبيب، وهو يومئذ قد راهق، فأقبل مع الفارس، لا يفارقه كُلمّا دخل القصر دخل معه، وإذا خرج خرج معه، فارتاب به، فقال: ما لك يا بني تتبعني؟ قال: لا شيء! قال: بلى يا بني أخبرني؟
قال له: إنّ هذا الرأس الذي معك رأس أبي أفتعطينيه حتّى أدفنه؟
قال: يا بني لا يرضى الأمير أن يدفن، وأنا أريد أن يثيبني الأمير على قتله ثواباً حسناً!
قال له الغلام: لكن اللّه لا يثيبك على ذلك إلاّ أسوأ الثواب، أما واللّه لقد قتلته خيراً منك وبكى.
فمكث الغلام حتّى إذا أدرك لم يكن له همة إلاّ اتباع أثر قاتل أبيه ليجد منه غرة فيقتله بأبيه، فلمّا كان زمان مصعب بن الزبير، وغزا مصعب باجمير ادخل عسكر مصعب فإذا قاتل أبيه في فسطاطه، فأقبل يختلف في طلبه والتماس غرته، فدخل عليه وهو قائل نصف النهار فضربه بسيفه حتّى برد... " .
نعم، في رواية الصدوق أنّ القاسم يسأل أباه عمّا يفعله الفرس بالرأس فيقول: " قلت لأبي: لو أنّه رفع الرأس.. إلى آخره ".
وهو يدلّ على حياة الأصبغ ذلك اليوم، وعليه فلم يعرف الوجه في تأخّره عن حضور المشهد الكريم، مع مقامه العالي في التشيّع، وإخلاصه في الموالاة لأمير المؤمنين وولده المعصومين (عليهم السلام)، ومشاهدته هذا الفعل من الطاغي يدلّ على عدم حبسه عند ابن زياد كباقي الشيعة الخلّص، ولا مخرج عنه إلاّ بالوفاة قبل تلك الفاجعة العظمى كما هو الظاهر ممّا ذكره أصحابنا عند ترجمته، من الثناء عليه، والمبالغة في مدحه، وعدم الغمز فيه.
فتلك الجملة: " قلت لأبي "، لا يعرف من أين جاءت. ولا غرابة في زيادتها بعد طعن أهل السنّة فيه كما في اللألئ المصنوعة ج1 ص213، فإنّه بعد أن ذكر حديث الأصبغ بن نباتة عن أبي أيوب الأنصاري " أنّهم أُمروا بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين مع علي "، قال: " لا يصحّ الحديث، لأنّ الأصبغ متروك، لا يساوي فلساً " .
وفيه ص195 ذكر عن ابن عباس حديث الركبان يوم القيامة رسول اللّه وصالح وحمزة وعلي قال: " رجال الحديث بين مجهول وبين معروف بعدم الثقة " .
ولقد طعنوا في أمثاله من خواصّ الشيعة بكُلّ ما يتسنّى لهم، وما ذكر في تراجمهم يشهد لهذه الدعوى، ولا يتحمّل هذا المختصر التبسط في ذكرها، ومراجعة ما كتبه السيّد العلاّمة محمّد بن أبي عقيل في " العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل " ص40 في الباب الثاني فيه كفاية، فإنّه ذكر جملة من أتباع أهل البيت طعنوا فيهم بلا سبب إلاّ لموالاة أمير المؤمنين وولده (عليهم السلام).

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد