علمٌ وفكر

المحدودية


الشيخ محمد رضا المظفر

تقريب ذلك أن كلّ موجود من ممكنات العالم محدود بحدود وكلّ محدود له حاد، فالعالم الإمكاني له حاد غير محدود وهو صرف الوجود، دفعًا للدور والتسلسل.
أما الصغرى؛ فلأن كلّ شيء من أشياء العالم الإمكاني صغيرها أو كبيرها جمادها أو نباتها أو حيوانها محدودة بالحد المكاني والزماني وغيرهما من الكيفيات والخصائص، ولذا لا وجود له في خارج الحد المكاني أو في خارج الحد الزماني أو نحوهما. نعم بعضها بالنسبة إلى بعض آخر أعظم أو أطول أو أدوم، ولكن كلّها محدودة بالحدود المذكورة، بل المجردات أيضًا محدودة بحد مراتب الوجود وأسبابها وعدمها.
وأما الكبرى؛ فلأن كلّ محدودية من أي نوع كانت آتية من ناحية غير المحدود، لا من ناحية نفسه وإلّا لكان الأمر بيده، مع أن المعلوم خلافه. هذا مضافًا إلى أنه يلزم منه مساواة كلّ محدود مع غيره في الحدود؛ لاشتراكهم في حقيقة الوجود، فالحدود في المحدودات آية المقهورية والمعلولية ولزم أن تنتهي إلى من ليس له حد من الحدود، بل هو صرف الكمال والوجود وليس هو إلّا الله تعالى الذي عبر عنه في الكتاب العزيز بالصمد والقيوم والغني.

ويمكن تقريب البرهان المذكور بوجه آخر وهو أنه لا إشكال في وجود الموجودات في الخارج فإن كان مطلقًا وصرفًا ومحض الوجود فهو المطلوب وإلّا استلزمه؛ لأن لكل محدود حادًّا دفعًا للدور والتسلسل.
وقال صدر المتألهين في شرحه على أصول الكافي: كلّ محدود له حد معين، إذ المطلق بما هو مطلق (في عالم الخلق) لا وجود له في الخارج، فيحتاج إلى علة محددة قاهرة إذ طبيعة الوجود لا يمكن أن تكون مقتضية للحد الخاص وإلّا لكان كلّ موجود يلزمه ذلك الحد، وليس كذلك فثبت أن الحد للوجود من جهة العلة المباينة، فكل محدود معلول لا محالة، فخالق الأشياء كلّها يجب أن لا يكون محدودًا في شدة الوجود وإلّا لكان له خالق محدد فوقه وهو محال (١).

وقال العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ : كل حقيقة من حقايق العالم فرضت فهي حقيقة محدودة؛ لأنها على تقدير وفرض وجود سببها كانت موجودة، وعلى تقدير وفرض عدم سببها كانت معدومة ففي الحقيقة لوجودها حد وشرط معين ليس لها وجود في خارج ذلك الحد والشرط المعين. وهذا الأمر جار في كل شيء عدا الله سبحانه وتعالى حيث أنه ليس له حد ونهاية، بل هو حقيقة مطلقة وموجود على كلّ التقادير وليس متقيدًا بشرط ولا سبب ولا يكون محتاجًا إلى شيء (٢). ولذا قال أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في توصيفه تعالى : «فلا إليه حد منسوب» (٣)وخاطب الإمام علي بن الحسين ـ عليهما‌السلام ـ ربه في دعائه بقوله : «أنت الذي لا تحد فتكون محدودًا» (٤) وفي توقيع محمّد بن عثمان ابن سعيد عن مولانا الحجة بن الحسن المهدي ـ عليهما ‌السلام ـ جاء في ضمن الدعاء : «يا موصوفًا بغير كنه ومعروفًا بغير شبه حادّ كل محدود» (٥). فحد الوسط في هذا البرهان هو المحدودية، وهي من خصوصيات المعلول اللازمة له إذ لا يمكن أن يوجد معلول بدونها.
ـــــــــــــــــــــ
(١) شرح الاصول من الكافي : ص ٣٣٢.
(٢) شيعه در إسلام : ص ٧١.
(٣) بحار الأنوار : ج ٤ ص ٢٢٢.
(٤) الصحيفة : الدعاء ٤٧.
(٥) مفاتيح الجنان : أدعية أيام شهر رجب ص ١٣٥.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد