قرآنيات

الغيبة

السيد موسى الصدر
﴿لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعًا عليمًا﴾ [النساء، 148]
السوء من القول، يعني القول السيء عندما يجهر به الإنسان، لا يحب الله هذا الجهر. وهذا يعني الغيبة، لأن الغيبة، هو جهر بالقول السيء. عندما يذكر الإنسان أخاه الإنسان بالقول السيء فقد جهر بالسوء من القول. وهذا موقف لا يحبه الله. وسبب عدم حب الله له لأن هذا الموقف هو يضر الإنسان أقصى ضرر ممكن. والسبب في ذلك أن الغيبة أو ما عبر عنه القرآن الكريم في هذه الآية: ﴿الجهر بالسوء من القول﴾ عبارة عن ذكر الإنسان أخاه، بما يكرهه أو يغضبه أو يشينه.

وهذا يعني، أن الإنسان بكلمته يكشف عيوب الناس، ويفضح الغائبين، ويزعزع ثقة الناس فيهم. وإذا تعمقنا في هذا الموقف، وأخذنا بعين الاعتبار، أن الإنسان يعيش بين مجتمعه ويخدم مجتمعه، ويستفيد مجتمعه من كفاءاته، بثقتهم، بثقة الناس في الإنسان. فعندما نراجع الطبيب لمعالجة مريض، ثقتنا بالطبيب تدعونا إلى مراجعته. أما إذا لم نكن واثقين من سلوك طبيب، فإننا لا نرجع إليه أبدًا. كذلك مراجعتنا للمعلم، أو للمهندس، أو للبائع، أو للعالم الديني، أو للحاكم يعتمد كل ذلك على ثقتنا به.
فالثقة بالشخص، وجوده، حياته، فائدته للمجتمع، مشاركته في الحياة العامة. أما إذا انتزعت الثقة، فمعنى ذلك أنه مات على الصعيد الاجتماعي، فقد المجتمع هذا الشخص. ولذلك، فالقرآن الكريم في آية أخرى، عندما يمنع الغيبة، يقول: ﴿ولا يغتب بعضكم بعضًا﴾ [الحجرات، 12]، يضيف القرآن الكريم، مفلسفًا، هذا النهي بقوله: ﴿أيحب احدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه﴾ [الحجرات، 12].

والحقيقة أن الغيبة، تمامًا منزلتها، منزلة من يقص لحمًا من أخيه الميت، أو أخيه الغائب. عند ذلك بإمكاننا أن نشبِّه، أن الإنسان الذي يعيش ضمن مجتمعه بثقة المجتمع فيه. فالثقة وجوده، وكل غيبة له وذكره بالسوء من القول، طعن وطعنة في حياته الاجتماعية، أو قص قطعة من جسمه، وقطعة من لحمه. وهذا يعني أن الغيبة تؤدي إلى إماتة الإنسان اجتماعيًا، وإلى فقد ثقة الناس، وزعزعة حياة الناس، والقضاء على الثروات الاجتماعية المتوفرة داخل المجتمع. ومن الطبيعي أن الذي يغتاب غائبًا، ويساهم في موته الاجتماعي، يضر نفسه، لذلك عبر القرآن الكريم: ﴿أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه﴾ [الحجرات، 12]، فكأنه يقتل أخاه.
وكذلك في الروايات الواردة في المعراج، أن الرسول عليه الصلاة والسلام، رأى ليلة المعراج، أن قومًا يقصون لحومهم بالمقاريض فيأكلونها. فسأل عن ذلك، فقالوا له: هؤلاء هم المغتابون. نفس الصورة التي نراها في هذه الآية أن الإنسان بالغيبة يأكل لحمه، أو لحم أخيه.

الغيبة هذه، من المصائب الاجتماعية التي يبتلى بها المجتمع المتخلف الذي يعيش الفراغ، فلا يجد ما يشتغل فيه وما يسليه إلا التحدث عن الغائبين، ويؤنس حياته الخاصة والعامة بذكر الآخرين، وهو لا يدري أنه يحطم مجتمعه.
حرمة الغيبة لا تعني عدم جواز غيبة الظالمين، وانتقاد الظالمين. ولذلك، القرآن الكريم يستثني قائلًا: ﴿لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم﴾.
فالغيبة محرمة، ولكن حرمة الظلم أكثر. حتى إن الغيبة تجوز بالنسبة إلى الظالمين، وإلا فالظالم، إذا بقي محفوظ الجانب، لا ينتقد ولا يقال عنه شيء، ولا يعاب في المجتمعات سرًا وعلانية، فسوف يستمر في طغيانه وظلمه، وسوف يبقى ظالمًا، ويتعرض المجتمع لتعميم ظلمه. ولذلك، فغيبة الظالم كنبذ الظالم، جائزة.

والله سبحانه وتعالى هو الرقيب على ذلك. والقرآن الكريم يضيف: ﴿وكان الله سميعًا عليمًا﴾. ولا بد من الإضافة إلى أن الغيبة أخف من التهمة. فالغيبة هو ذكر عيب موجود في الإنسان الغائب، أما التهمة فهي ذكر عيب غير موجود في الإنسان الغائب. بدون شك، أن التهمة، تركيب من الغيبة ومن الكذب، فلها ما للعيبين معًا من النتائج والمساوىء.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة