قرآنيات

النور والظلمات

 

السيد موسى الصدر
(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ  أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ  هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)  [البقرة، 257]
في هذه الآيات، سيما في الآية الأخيرة: ﴿الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾، يرسم القرآن الكريم جبهتين متقابلتين ويقيّم كلًا من هاتين الجبهتين فيقول أولًا إن الذين آمنوا، الذين سلكوا سبيل الحق، الذين انسجموا مع ضميرهم وفطرتهم، الذين عبدوا الله سبحانه وتعالى، وهو الحق والأول والأخير والظاهر والباطن، وهو الرحيم الغفور، وهو العادل وهو العليم، وهو السميع البصير، له الأسماء الحسنى والأمثال العليا، كما نفهم معنى الله أنه هو الحق الواجب الذي يجتمع لديه أعلى المثل وأكمل الصفات الحسنة.

الله عندما يؤمن به الإنسان يتجه بكل وجوده، لأن الإيمان يشمل كل وجود الإنسان من قلبه وعقله وجسده، يتجه الإنسان بكل وجوده نحو الله كما تتجه إبرة البوصلة نحو القطب حيث التجاذب بين الإبرة وبين القطب. الإنسان يتجه ذلك الاتجاه، اتجاهًا نحو الحق فهو يسلك سبيل الحق، اتجاهًا نحو العدل والعلم والفكر والخير والتقوى، اتجاهًا نحو كل صيغة صالحة.
وهذا الاتجاه يتجسد بعبادة الإنسان لله، فعبادة الإنسان لله لا تعني العبودية إطلاقًا بل التحرر من الصفات السيئة: من الجهل نحو العلم، من الفقر نحو الرفاه، من السوء نحو الحسن، من القسوة نحو الرحمة، من التفرق نحو الوحدة، هذا معنى الإيمان بالله.
عندما يكون الإنسان مؤمنًا بالله يتجه في سلوكه نحو الخير، هذا هو المعبَّر عنه في القرآن الكريم: ﴿يخرجهم من الظلمات إلى النور﴾، فالظلمات بمعنى ظلمات الجهل والنفاق والشقاء والتفرق وبقية المساوئ فيخرج الإنسان المؤمن بالله، والذي وليه الله يأخذه بيده، فيخرجه من الظلمات إلى النور ويتجه به نحو الكمال والخير.

ومقابل هؤلاء المؤمنين بالله، مقابلهم أولئك الذين كفروا، واختاروا بدلًا من الله إلهًا آخر وآلهة أخرى، اختاروا الطاغوت، والطاغوت آلهة الأرض، الطاغوت كل شيء يُعبْد من دون الله من مال أو جاه أو رغبة أو شهرة أو استبداد أو ظلم على الأرض. من الطبيعي أن الإنسان يحتاج إلى المال ويرغب إلى الجاه ويحب نفسه، ولكن عندما ينطلق من مبدأ الحب بالذات أو مبدأ حب المال، يعني يجعل قدس أقداسه المال أو الجاه، يكون منحرفًا. عبد المال والجاه من دون الله، وكذلك أولئك الذين ينطلقون في حياتهم الاجتماعية، أو في حياتهم بصورة عامة من مبدأ الإطاعة للظالمين المستبدين والطغاة، أولئك ينحرفون عن السبيل، أو بتعبير قرآني، يخرجون من النور إلى الظلمات، لأن عبادتهم لهذه الأشياء، إطاعتهم لآلهة الأرض لطغاة الأرض، تجعلهم في سبيل الظلم تجعلهم يخرجون عن العدل بالتدريج، تجعلهم يخرجون عن الحرية بالتدريج، وأخيرًا تجعلهم يخرجون عن الحقيقة بالتدريج.

فالطاغوت يمثل خروجًا عن العدل، خروجًا عن الحرية، خروجًا عن الحقيقة، فإطاعة الطاغوت وبالتالي عندما يكون الطاغوت ولي الذين كفروا، ولي الإنسان، يكون الإنسان بشكل تدريجي يخرج عن العدل نحو الظلم أي من النور إلى الظلمات، يخرج عن الحرية التي منحها الله للإنسان إلى العبودية للطاغية، وبالتالي يخرج من النور إلى الظلمات. وهكذا يخرج عن الحقيقة، لأن الإطاعة للطاغي ليست الحقيقة، خلاف واقع الإنسان وضمير الإنسان ومصلحة الإنسان، فهو يخرج عن الحقيقة نحو الباطل، أي يخرج من النور إلى الظلمات وبالتالي يصبح من أصحاب النار.

أولئك الذين يعينهم الله ويأخذ بيدهم الله أي المؤمنين بالله، أولئك هم في سبيل الكمال، أما الذين يعبدون الطاغوت فهم في سبيل النقص والمتجهين نحو الظلام التدريجي.
ومما يزيد إيضاحًا لهذه الحقيقة ما ورد في الآيات السابقة، عندما يقول القرآن الكريم، واصفًا الله سبحانه وتعالى: ﴿الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض﴾ [البقرة، 255]، وبذلك يصف قدرة الله وعظمته وحضوره الدائم وإحاطته بكل شيء، لكي يكون سندًا قاطعًا مطلقًا للإنسان المؤمن. ثم يقول: ﴿من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه﴾ [البقرة، 255]، لكي يؤكد أن الشفاعة الموجودة عند الله، ليست الوساطات المتعارف عليها في مجتمعاتنا. عندما توصل الوساطة إنسانًا غير صالح إلى مكان مرموق، أو إنسانًا غير مستحق إلى حق الآخرين، أو إنسانًا غير صالح للأمور التي يجب أن تكون بيد الصالحين؛ أما الله سبحانه وتعالى فلا يقبل شفاعة إلا بإذنه، أي لا يعتمد إلا على سعي الإنسان، كما يؤكد ذلك موضع آخر في القرآن الكريم عندما يقول: ﴿وأن ليس للإنسان إلا ما سعى﴾ [النجم، 39]، فالسعي في السبيل هو السبب الوحيد أمام الله سبحانه وتعالى وعند ذلك تكتمل الصورة.

فالإنسان المؤمن يجعل هدفه الله أي الحق المطلق والكمال المطلق، الجمال المطلق أي العدل اللانهائي والعلم اللانهائي والرحمة اللانهائية، أي كل شيء كامل في هذا الكون في أسمى درجاته وأعلى مستوياته، هذا هو الهدف الأبدي للإنسان المؤمن.
أما الطريق فهو سعي وحيد دون الوساطات ودون الشفاعات، ومن الطبيعي أن الإنسان الذي يعتمد على سعيه ويتجه نحو الكمال، يخرج من الظلمات من التفرق من الجهل من التخلف إلى الكمال وإلى النور وإلى العلم، بعكس الذين اتخذوا آلهتهم طواغيت الأرض أهواءهم وشهواتهم، أو أولئك الناس الذين لا يستحقون أن يعبدوا، أولئك في تخلف مستمر.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد