من التاريخ

القرآنيّون تاريخهم نشأتهم وآراؤهم (3)

 

القرآنيون، من جكرالوي إلى غلام أحمد برويز، تطوّرات واتجاهات

ظهر القرآنيّون، وكان من أوّلهم: غلام نبي، المعروف بـ(عبد الله جكرالوي) والمتوفى سنة 1914م، وهو أوّل من أسّس الحركة القرآنيّة عام 1902م، في بداية القرن العشرين في لاهور الباكستانيّة، وهو يصنّف من القرآنيّين المتشدّدين المتطرّفين؛ لأنه يرى أنّ في القرآن تمام التفاصيل بعرضها العريض، وأنّ أيّ حكم يمكن للإنسان أن يأخذه من القرآن المجيد، ومن هنا اتخذ فكره طابعاً متشدّداً، محاولاً أن يستنطق القرآن في كلّ جزئيّة من الجزئيّات.

لكنّ هذه الدعوى ليست سهلة التصديق، بل المستكنّ الراسخ في أذهاننا ولا يقبل النقاش عند عامّة المسلمين أنّ القرآن الكريم أشبه بالدستور العامّ، أمّا التفاصيل والقوانين المدنيّة والجزائيّة و.. فلا نجدها إلا في السنّة الشريفة، وهذا هو المتجذّر في أذهاننا جميعاً على اختلاف مذاهبنا؛ فالقرآن يؤصّل القواعد فيما السنّة تُدخلنا في التفاصيل.

وظهر من بعد جكرالوي في شرق الهند، محبُّ الحقّ عظيم آبادي، وأسّس الحركة القرآنيّة هناك، وظل يدافع عنها حتى أواخر الخمسينيات من القرن العشرين.

وجاء بعده أحمد الدين الأمرتسري المتوفي سنة 1936م، فأسّس جماعة (أمّة مسلمة) سنة 1926م، وهاجم نظام الإرث المستند إلى السنّة، معتقداً أنّ علينا أن نرجع إلى القرآن الكريم فقط في استخراج نظام الإرث، ومن الواضح ـ لمن تابع تطوّر البحث الفقهي ـ أنّ هناك جدلاً واسعاً ـ خاصّة في المائة والخمسين سنة الأخيرة ـ حول موضوعي: الإرث والوقف، لاسيما الوقف الذُرّي؛ حيث عدّه بعضهم منافياً لتطوّر الاقتصاد.

وقال القرآنيّون: يجب أن يكون نظام الإرث قرآنيّاً، فالمسلم يرث من الكافر والكافر يرث من المسلم؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (النساء: 11)، ولم يقل: يوصيكم الله في أولادكم المسلمين، ولا العكس.

ثم بعد ذلك جاء الحافظ أسلم الجراجبوري المتوفى عام 1955م، فساند حركة رفض نظام الإرث القائمة على السنّة، لكنّه ركّز اهتمامه النقدي بشكل مبالغ فيه على الحديث وعلم الرجال، واعتبر أنّ الأنظمة التي وضعها علماء الإسلام في مجال الحديث وعلم الرجال غير قادرة على تقديم نتائج يُطمئنّ لها.

واستمرّ تطوّر الحركة القرآنيّة في شبه القارّة الهنديّة، إلى أن جاء أهمّ شخص فيها وهو غلام أحمد برويز، وهو الذي يُطلق عليه اسم: مؤلّف الحركة القرآنيّة؛ إذ كان عطاؤه العلميّ غزيراً، فقد آمن برويز بالعلوم العصريّة ودافع عن تفسير القرآن، وأسّس حزباً تحت عنوان طلوع إسلام، وعُدّ حزبه من أقوى الأحزاب وأنشطها، وشهد فترة ذهبيّة هائلة في الخمسينيّات والستينيات من القرن العشرين، لكنّه تراجع تراجعاً كبيراً بسبب سيلٍ من فتاوى التكفير التي حُملت على القرآنيين من قبل فقهاء أهل السنّة والمجامع العلميّة لديهم، من مختلف أرجاء العالم، الأمر الذي أدّى إلى ضمور حركته وانحسار الحركة القرآنية في شبه القارّة الهندية عموماً، وباكستان خصوصاً.

لقد كان برويز يختلف مع جكرالوي في وجود التفاصيل في القرآن؛ حيث ذهب إلى اشتمال القرآن على الأساسيّات فقط دون التفاصيل، وهذه الأخيرة تأتي من مركز الملّة (وهو وليّ الأمر) وفقاً لاُسس القرآن، أي إنّه استعاض عن السنّة بالتشريع البشريّ الذي يكون تحت المؤشّرات العامّة للتشريعات القرآنيّة، وبهذا ميّز بينه وبين العلمانيّة والقوانين الوضعيّة؛ حيث إنّ الحكم الذي يصدر عن مركز الملّة إنما يكون تحت مظلّة التشريعات القرآنيّة ومبادئها، أمّا القوانين الوضعيّة فصلاحيّة التشريع لديها غير ملزَمة بهذه المظلّة.

وعلى مستوى مناهج فهم القرآن، قالوا: لابدّ أن نرجع إلى اللغة، فنفهم القرآن ونستنتج منه الأحكام عبرها، أمّا طريقة الرجوع إلى اللغة فلا تخلو من ظرافة، فالطواف لغةً يعني التردّد على الشيء، فحينما ينصّ القرآن قائلاً: {…طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} (النور: 53)، فهو يعني تتردّدون بعضكم على بعض، لا بمعنى تدورون حول بعض، فالطواف هو التردّد على البيت الحرام لا الدوران حول الكعبة.

وإنما ذهبوا إلى هذا القول استغناءً عن السنّة بكلّ أنواعها، وبذلك أحدثوا لأنفسهم طقوساً خاصّة في العبادات، وكانت لديهم بعض الحلقات العباديّة الخاصّة، وهناك من يقدّم إحصائيّة في هذا المجال تفيد أنّ (3%) من الشعب الباكستاني هم قرآنيّون، ولا ندري مدى دقّة هذه الإحصائيّة.

 

مبرّرات القرآنيّين في إسقاط حجيّة السنّة أو عدم الاهتمام بها

ينطلق القرآنيون من عدّة مبرّرات، لتشييد مدرستهم الفكريّة والاجتهاديّة، وأهمّها:

المبرّر الأوّل: عدم الاطمئنان بصحّة الأحاديث (إشكاليّات النقل التاريخي للسنّة)

يذهب القرآنيون إلى أنّه لا يمكن الوثاقة بالروايات لكي يمكن التعويل عليها، وذلك لعدّة إشكاليّات أهمّها:

الإشكاليّة الأولى: التناقل الشفوي

وتعني هذه الإشكاليّة من وجهة نظرهم أنّ القرن الهجري الأوّل لم يتوافر على تدوين، ولم تصل إلينا نسخة مدوّنة للسنّة في تلك الفترة الزمنيّة، وكلّها قيل عن قال، والتناقل الشفوي لا يمكن الاتّكاء عليه، ولا يمكن الاعتماد في نقل الأفكار بشكل مطابق ويقيني من خلال التناقل الشفوي عبر خمسة أشخاص ينقل الواحد منهم عن الآخر، فكيف يمكن ذلك وقد نقلت السنّة عن طريق عدّة أشخاص؟!

ومن أمثلة ذلك عندهم أنّهم يقولون بأنّه لو شافه شخص صاحبه الذي بجانبه بفكرة معيّنة، وهذا الذي بجنبه شافهها لمن هو بجانبه، وهكذا حتّى وصلت إلى من هو في آخر المجلس، فإنّ المفاجأة ستجدها حينما تسمع نفس هذه الفكرة من الشخص الأخير؛ حيث ينتابها نوع من الزيادة والنقصان والتصحيف والتحريف.

الإشكاليّة الثانية: النقل بالمعنى

يرى القرآنيون أنّ الروايات صنيعة الرواة، فهي نقلٌ بالمعنى، ولا توجد رواية بنفس ألفاظها، ورغم ما يحكى عن قوّة الحفظ التي كان يتمتّع بها بعض العرب، إلا أنّ ذلك لا يحوّلهم إلى أدوات ذكيّة كالحواسيب التي نراها اليوم، فهم بشرٌ في نهاية المطاف، وقد يكون بينهم حَفَظَة، لكن ليس كلّ عربي في ذلك الزمان حافظ، ومن ثمّ فكلّ أو أغلب التناقل الذي وقع في تلك الفترة إنّما هو بالمعنى، والذي ينقل لك هذه الروايات قد يفقه ما ينقله وقد لا يكون كذلك، فتصل المرويّات متضعضعة، ومن هنا ينفتح باب التحفّظ في مجال قيمة الحديث.

الإشكاليّة الثالثة: الفاصل الزمني بين الرواة وعلماء الجرح والتعديل

توجد مشكلة أخرى هنا أيضاً، وهي مشكلة الفاصل الزمنيّ بين الرواة وعلماء الجرح والتعديل؛ إذ إنّ بينهم فواصل تصل إلى قرون، فكيف عرف عالم الرجال وثاقة وعدالة هؤلاء الرواة كي يحكم طبقاً لمعرفته؟!

إنّ الميزان في الجرح والتعديل كان هو: أن ينظر الرجالي في روايات الرواي، فإن رآه يقدّم عليّاً ويقدح في الصحابة قال: كذّاب وضّاع، وإن رآه يمتدح الصحابة ويؤخّر علياً قال: هذا ثقة مثلاً.. وإن كان قدرياً وضعوا عليه علامة استفهام، وإن كان شيعيّاً ـ وهو أوسع من الإماميّ بكثير في تلك الفترة الزمنيّة ـ رموه بالكذب والوضع، والعكس موجود أيضاً، فكيف نثق بأحكامهم الرجاليّة في مثل هذه الأحوال، وهي قائمة على اجتهاداتهم الشخصيّة في الدين والفكر؟!

 

إلى غير ذلك من الإشكاليات التي لا نطيل بالحديث عنها مثل:

أزمة النُسَخ المتعدّدة، فأقدم نسخ للحديث جاءت بعد مئة وخمسين سنة، وإذا راجعناها وجدنا فيها اختلافاً واضطراباً عجيباً.

وظاهرة الوضع في الحديث، وهنا يركّزون على الروايات التي تعارض العلم، بحيث أبرزوها وسلّطوا الضوء عليها.

وعدم وجود تواتر في الحديث، وإنّما هناك إشاعة فقط، لاسيما في التناقل الشفوي.

وكلّما أخذنا جميع المذاهب زادت هذه المشاكل.

وظاهرة التعارض الكبير بين الروايات.

هذه الإشكاليّات جميعاً تعرّض لها علماء الكلام والأصول والحديث من قَبل، لكن ما قام به القرآنيّون هو جمعها والتركيز على نقاط الضعف فيها، دون أن يذكروا نقاط قوّتها، تاركين خلف ظهرهم كلّ التظافر في الأسانيد والطُرق، ومعرضين عن كلّ عنصر إيجابي، مكتفين بتسليط الضوء على العناصر السلبيّة.

وهذه مشكلة عامّة تُعدّ من أزماتنا الفكريّة جميعاً، فحينما نريد شيئاً ننسى كلّ سلبيّاته ولا نسلّط الضوء عليها، ومن ثم فلا نُظهّر إلا الإيجابيّات، وحينما نرفض شيئاً ننسى كلّ إيجابيّاته، ونظهّر السلبيات ولا نرى فيه شيئاً حسناً، وبذلك يتم تصوير الأشياء بلون واحد فقط؛ فالحديث مثله مثل علم التاريخ، يحمل قوّةً ويحمل ضعفاً، وفيه تقدّم وتأخّر، وفيه عناصر وثوق وفيه عناصر انعدام الوثوق، ويجب أن ندخل معركة التاريخ بغية التمييز، وإلا فيفترض بنا أن نغلق باب العلم حتى بوجود شخصٍ اسمه محمد بن عبد الله.

فهذه الإشكاليّات الحديثيّة تعرّض لها العلماء على مرّ التاريخ، وبعد أن ظهرت هذه الحركة كتبت كُتُب في الردّ عليها، والكلّ يقبل بوجود مثل هذه المشاكل، لكن هل هذه المشاكل تصل بنا إلى حدّ عدم القدرة على قبول ولو 5% من الأحاديث مثلاً؟!

من الواضح أنّ الكثير من المشاكل توجب سقوط جملة من النصوص الحديثيّة، لكنّ هذا لا يفضي إلى سقوط الأحاديث التي تحمل سنداً تامّاً وتعاضداً في الطرق والمصادر، وموافقةً للقرآن والعقل في مضمونها.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد