قرآنيات

سورة الكوثر: بشارة الخلود

 

فضل السورة:

عن الصادق عليه السلام: "من كانت قراءته {إنا أعطيناك الكوثر} في فرائضه ونوافله سقاه الله من الكوثر يوم القيامة، وكان محدثه عند رسول الله صلى الله عليه وآله في أصل طوبى".

وقال الصادق عليه السلام : "من قرأها بعد صلاة يصليها نصف الليل سراً من ليلة الجمعة ألف مرة مكملة رأى النبي صلى الله عليه وآله في منامه بإذن الله تعالى" .

 

سبب النزول:

دخل رسول الله صلى الله عليه وآله المسجد وفيه عمرو بن العاص والحكم بن أبي العاص. قال عمرو: يا أبا الأبتر! وكان الرجل في الجاهلية إذا لم يكن له ولد سمي أبتر. ثم قال عمرو: إني لأشنأ محمداً_ أي أبغضه_.

 فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله: {إنا أعطيناك الكوثر فصلِّ لربك وانحر} - إلى قوله – {إن شانئك} أي مبغضك عمرو بن العاص{هو الأبتر} يعني لا دين له ولا نسب. 

 

{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}

يُطيِّب الله خاطر نبيِّه صلى الله عليه وآله، بأنه قد أعطاه الكوثر وهو الخير الكثير. وقد وردت عدة تفاسير للكوثر كلها مصاديق للخير الكثير هذا:

1-أنه نهر في الجنة له حوض اختص به الرسول صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام يسقون منه أولياءهم ويمنعون منه أعداءهم.

وقد ورد في هذا المعنى عدة روايات:

منها: ما رواه أنس قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: قد أعطيت الكوثر. فقلت: يا رسول الله وما الكوثر؟ قال: نهر في الجنة عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب، لا يشرب أحد منه فيظمأ، ولا يتوضأ أحد منه فيشعث، لا يشربه إنسان أخفر ذمتي ولا قتل أهل بيتي.

ومنها ما رواه أنس: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاء، ثم رفع رأسه مبتسماً. فقلت: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت علي آنفا سورة. فقرأ سورة الكوثر، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم.

قال: "فإنه نهر وعدنيه عليه ربي خيراً كثيراً، هو حوضي، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد نجوم السماء، فيختلج القرن منهم، فأقول: "يا رب إنهم من أمتي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك".

ومنها ما رواه فرات الكوفي في تفسيره عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام قال: لما أنزل الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وآله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قال له أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: يا رسول الله، لقد شرَّف الله هذا النهر وكرَّمه، فانعته لنا. قال: نعم يا علي، الكوثر نهر يجري من تحت عرش الله، ماؤه أبيض من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد، حصاه الدر والياقوت والمرجان، ترابه المسك الأذفر وحشيشه الزعفران، سنخ قوائمه عرش رب العالمين، ثمره كأمثال القلال من الزبرجد الأخضر والياقوت الأحمر والدر الأبيض يستبين ظاهره من باطنه وباطنه من ظاهره. فبكى النبي وأصحابه ثم ضرب بيده إلى علي بن أبي طالب فقال: والله يا علي ما هو لي وحدي وإنما هو لي ولك ولمحبيك من بعدي.

يتفرَّع من هذا النهر رافد آخر هو نهر الخير، فقد روى الشيخ الصدوق بسنده عن الحسين بن أعين أخي مالك بن أعين، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الرجل للرجل: "جزاك الله خيرا" ما يعني به؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: إن الخير نهر في الجنة مخرجه من الكوثر، والكوثر مخرجه من ساق العرش، عليه منازل الأوصياء وشيعتهم، على حافتي ذلك النهر جواري نابتات كلما قلعت واحدة نبتت أخرى باسم ذلك النهر وذلك قول الله عز وجل في كتابه:{فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} فإذا قال الرجل لصاحبه: "جزاك الله خيرا" فإنما يعني به تلك المنازل التي أعدها الله عز وجل لصفوته وخيرته من خلقه.

هذا الماء استخدمه الله تعالى في خلق بعض البشر، فانعكس فيهم صفاتاً حميدة كما ورد في بعض الروايات، منها:

ما رواه ثقة الإسلام الكليني قدس سره في الكافي الشريف عن علي بن إبراهيم القمي عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام أن رسول الله  صلى الله عليه وآله قال: السخي محبَّب في السماوات، محبَّب في الأرض، خُلِق من طينة عذبة وخُلِق ماء عينيه من ماء الكوثر، والبخيل مبغَّض في السماوات، مبغَّض في الأرض، خُلِق من طينة سبخة وخُلِق ماء عينيه من ماء العوسج.

وتقع على ضفافه منازل رسول الله صلى الله عليه وآله  وأهل بيته عليهم السلام في الجنة: فقد روى الحاكم الحسكاني عن زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله، أراني جبرئيل منازلي ومنازل أهل بيتي على الكوثر.

2-أنه النبوة والكتاب: وهو قول عكرمة.

3-أنه القرآن: وهو قول الحسن البصري.

4-أنه كثرة الأصحاب والأشياع: وهو قول أبي بكر بن عياش

5-أنه الشفاعة: وهو منسوب إلى الإمام الصادق عليه السلام، قال العلامة المجلسي قدس سره: رووه عن الصادق عليه السلام. وهذا النقل دون نص ولا ذكر للراوي مشعر يجعل الرواية مرسلة من مجهول عن مجهول.

6-أنه كثرة النسل والذرية: وقد ظهرت الكثرة في نسله من ولد فاطمة عليها السلام، حتى لا يحصى عددهم واتصل إلى يوم القيامة مددهم.

وهذا القول هو ما يساعد عليه سبب النزول وقرينة السياق في قوله تعالى {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} والمعنى اللغوي بأنه الخير الكثير يشمل جميع الاحتمالات السابقة ويجمع بينها. وهو ما ذهب إليه العلامة المجلسي قدس سره حيث قال: "واللفظ محتمل للكل فيجب أن يحمل جميع ما ذكر من الأقوال، فقد أعطاه الله سبحانه الخير الكثير في الدنيا، ووعده الخير الكثير في الآخرة، وجميع هذه الأقوال تفصيل للجملة التي هي الخير الكثير في الدارين".

 

{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}

أمر الله نبيَّه صلى الله عليه وآله بأن يصلي له وينحر مقابل هذه النعمة التي أنعمها عليه. وقد اختلف المفسرون في معنى الصلاة والنحر:

1-فقيل : المراد صلاة العيد، فيكون دليلاً على وجوبها، ويؤيده "وانحر" على تقدير أن المراد به نحر الإبل كما قيل.

2-وقيل: المراد صلاة الفجر بالمشعر، وذبح الهدي بمنى.

 3-وقيل المراد الصلاة مطلقاً، وجعل نحر المصلي إلى القبلة فيها، وهو كناية عن استقبال القبلة فيها فكأنه قيل: صل إلى القبلة.

 4-وقيل: يحتمل كون المراد رجحان فعل الصلاة لله مطلقاً والذبح له، ويكون التفصيل بالوجوب والندب من السنة والإجماع.

 5-والأرجح أن المراد رفع اليد بالتكبيرات في الصلاة إلى محاذاة نحر الصدر وهو أعلاه كالمنحر.

وقد وردت في هذا المعنى عدة روايات:

منها رواية عمر بن يزيد قال: "سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول في قوله {فصل لربك وانحر} هو رفع يديك حذاء وجهك". وروى عبد الله بن سنان عنه عليه الصلاة والسلام مثلها. وعن جميل قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله عز وجل{فصل لربك وانحر}، فقال بيده هكذا، يعني استقبل بيديه حذو وجهه القبلة في افتتاح الصلاة.

وروى مقاتل بن حيان عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: لما نزلت هذه السورة قال النبي صلى الله عليه وآله لجبرئيل: ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟ قال: ليست بنحيرة، ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبَّرت، وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع وإذا سجدت، فإنه صلاتنا وصلاة الملائكة في السماوات السبع. فإن لكل شئ زينة وإن زينة الصلاة رفع الأيدي عند كل تكبيرة.

وقال النبي صلى الله عليه وآله: "رفع اليدين من الاستكانة ، قلت: وما الاستكانة ؟ قال ألا تقرأ  هذه الآية؟ {فما استكانوا لربهم وما يتضرعون}.

 

{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}

يزيد الله عزَّ وجل في إعادة اعتبار نبيِّه صلى الله عليه وآله، فيقول أنه علاوةً على ما أعطاه من الخير الكثير، والذرية الوافرة، والذكر الخالد، ليقرَّ عينه. فإن مبغضه وعدوَّه عمرو بن العاص؛ هو الذي لن يكون له سلالة ممتدَّة، برغم ما أنعم الله عليه من الذكور، فإنَّ ذكره بالخير سينقطع، وذريته ستضمحل.

بينما سيبقى للنبي صلى الله عليه وآله العقب والذكر والخلود. وهذا ما نراه اليوم، حيث لا نجد لرجل ذرية لها تعداد ذرية النبي صلى الله عليه وآله بالرغم مما لحق بهم من قتل وتشريد وإبادة. ولا نجد رجلاً ينادي ربع سكان العالم باسمه خمس مرات في اليوم، عدا صلواتهم عليه وعلى آله في كل وقت وحين. فكانت هذه السورة المباركة بشارة بهذا الخلود الذي حباه الله لنبيه الحبيب صلى الله عليه وآله.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد