قرآنيات

التفسير في عهد التدوين


الشيخ محمد هادي معرفة ..
كـان الـتفسير في عهد نشوئه إنما يتلقى شفاها ويحفظ في الصدور ، ثم يتناقل نقل الحديث يدًا بيد هـكـذا كـان الـتـفـسير على عهد الرسالة ، وعلى عهد الصحابة والتابعين الأول ، أما في عهد تابعي الـتابعين ، فجعل يضبط ويثبت في الدفاتر والألواح ، وبذلك بدأ عهد تدوين التفسير إلى جنب كتابة الحديث ، وذلك في أواسط القرن الثاني، حيث راج تدوين الأحاديث المأثورة عن السلف .
ولـعل أول من سجل التفسير في الدفاتر والألواح هو مجاهد بن جبر ، توفي سنة (101هـ) يقول ابن أبـي مليكة : (رأيت مجاهدًا يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ، ومعه الواحه فيقول له ابن عباس : اكـتـب قال : حتى سأله عن التفسير كله) (1) وكان أعلم الناس بالتفسير قال الفضل بن ميمون : (سمعت مجاهدًا يقول : عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث مرات) (2).
وله تفسير متقطع ومرتب على السور ، من سورة البقرة إلى نهاية القرآن يرويه عنه أبو يسار عبد اللّه بن أبي نجيح الثقفي الكوفي ، توفي سنة (131هـ) وقد صححه الأئمة واعتمده أرباب الحديث ، وقد طبع أخيرا في باكستان سنة (1367 ه ق)....
ويـذكـر ابن حجر عند ترجمته لعطا بن دينار المصري ـ وكان من ثقات المصريين ، توفي سنة (126هـ) ـ أن لـه تـفسيرًا يرويه عن سعيد بن جبير ، قتل سنة (95هـ) وكان في صحيفة قال : ولا دلالـة أنـه سـمـع مـن سعيد بن جبير وعن أبي حاتم أنهأاخذه من الديوان ، وذلك أن عبد الملك بن مروان ، توفي سنة (86هـ) سأل سعيدًا أن يكتب إليه بتفسير القرآن ، فكتب سعيد بهذا التفسير فوجده عطاء بن دينار في الديوان فأخذه ، فأرسله عن سعيد (3) .
فهذا صريح في أن سعيد بن جبير جمع تفسير القرآن في كتاب ، وهذا الكتاب أخذه عطاء بن دينار وبـمـا أن سعيد بن جبير قتل سنة (95هـ) ولا شك أن تأليفه هذا كان قبل موت عبد الملك سنة (86هـ) فهذا التفسير قد كتب ودون قبل هذا الحين .
ويذكر ابن خلكان : أن عمرو بن عبيد ـ شيخ المعتزلة ، توفي سنة (144هـ) ـ كتب تفسيرًا للقرآن عن الحسن البصري المتوفى سنة 116هـ (4).
ولابـن جريج ، توفي سنة (150هـ) تفسير كبير في ثلاثة أجزاء ، يرويه بواسطة عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس ، توفي سنة (68هـ) ، ويرويه عنه محمد بن ثور وقد صححته الأئمة (5) وذكر أحمد بن حنبل : أنه أول من صنف الكتب (6).
وأمـثـال هـذه التفاسير مما كتب على الألواح أو في صحائف ذلك العهد كثير ، كانت تقتضيه طبيعة الأخذ والتلقي ذلك الحين ، وقد قل الاعتماد على الحفظ والضبط في الصدور.
غير أن هذه التفاسير كانت مقتصرة على نقل المعاني وروايتها عن التابعين والأصحاب ، وثبتها في الدفاتر خشية الضياع ، ولم يكن التفسير قد توسع أو دخله الاجتهاد في شكل ملحوظ.
ولـعـل أول مـن تـوسع في التفسير وضم إلى جانب المعاني جوانب أخر ولاسيما التعرض لأدب الـقـرآن وذكر خصائص اللغة ، واجتهد في ذلك ، هو أبو زكريا يحيى بن زياد الفرا المتوفي سنة (207هـ) .
يذكر ابن النديم في (الفهرست ) أن أبا العباس ثعلب قال : كان السبب في إملاء كتاب الفراء في معاني الـقـرآن ، أن عـمر بن بكير كان من أصحابه ، وكان منقطعًا إلى الحسن بن سهل فكتب إلى الفراء : أن الأمـيـر الـحسن بن سهل ، ربما سألني عن الشي بعد الشيء من القرآن ، فلا يحضرني فيه جواب فإن رأيت أن تـجـمع لي أصولا ، أو تجعل في ذلك كتابًا ، أرجع إليه فعلت فقال الفراء لأصحابه : اجتمعوا حـتـى أمـلـي عـلـيـكـم كـتابًا في القرآن ، وجعل لهم يومًا ، فلما حضروا خرج إليهم ، وكان في الـمـسـجـد رجـل يـؤذن ويقرأ بالناس في الصلاة فالتفت إليه الفراء ، فقال له : اقرأ بفاتحة الكتاب نـفـسرها ، ثم نوفي الكتاب كله فقرأ الرجل ويفسر الفراء  قال أبو العباس : لم يعمل أحد قبله مثله ، ولا أحسب أن أحدًا يزيد عليه (7).
ولا شك أن تفسير الفراء هذا هو أول تفسير تعرض لآيات القرآن آية آية ، حسب ترتيب المصحف وفـسـرهـا على التتابع ، وتوسع فيه وكانت التفاسير قبله تقتصر على تفسير المشكل ، وبصورة مـتـقـطـعـة ، غير مستوعبة لجميع الآيات على التتابع وقد جنح إلى هذا الرأي الأستاذ أحمد أمين المصري في (ضحى الإسلام )(8).
وعـلى أي تقدير ، فإن ذلك يعد أول بذرة غرست للتفسير المدون بشكل رتيب فقد كان القرن الثاني من بدايته إلى نهايته ، عهد تطور التفسير ، من مرحلة تناقله بالحفظ إلى مرحلة كتابته بالثبت كما أخذ بالتوسع والشمول أيضًا بعد ما كان مقتصرًا على النقل بالمأثور.
وازداد فـي القرن الثالث فما بعد ، في الأخذ في التنوع ، وتلونه بألوان العلوم والمعارف والثقافات التي كانت دارجة في تلك العصور.
____________________
1- راجع تفسير الطبري ، ج1 ، ص31 .
2- تهذيب التهذيب لابن حجر ، ج10 ، ص43.
3- تهذيب التهذيب ، ج7 ، ص198-199 ، رقم 382 .
4- وفيات الأعيان لابن خلكان ، ج3 ، ص 462 ، رقم 503.
5- الإتقان في علوم للسيوطي ، ج4 ، ص208.
6- تهذيب التهذيب ، ج6 ، ص403-404.
7- الفهرست لابن النديم ، ص105 .
8- ضحى الإسلام لأحمد أمين ، ج2 ، ص140-141.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة