قرآنيات

ضابطة التأويل


الشيخ محمد هادي معرفة ..
ومما يجدر التنبه له أن للأخذ بدلائل الكلام - سواء أكانت جلية أم خفية - شرائط ومعايير، لابد من مراعاتها للحصول على الفهم الدقيق فكما أن لتفسير الكلام - وهو الكشف عن المعاني الظاهرية للقرآن - قواعد وأصول مقررة في علم الأصول والمنطق، كذلك كانت لتأويل الكلام - وهو الحصول على المعاني الباطنية للقرآن - شرائط ومعايير، لا ينبغي إعفاؤها وإلا كان تأويلًا بغير مقياس، بل كان من التفسير بالرأي الممقوت.
وليعلم أن التأويل - وهو من الدلالات الباطنية للكلام - داخل في قسم الدلالات الالتزامية غير البينة، فهو من دلالة الالفاظ لكنها غير البينة، ودلالة الألفاظ جميعًا مبتنية على معايير يشرحهاعلم الميزان، فكان التأويل - وهو دلالة باطنة - بحاجة إلى معيار معروف كي يخرجه عن كونه تفسيرًا بالرأي.
 فمن شرائط التأويل الصحيح - أي التأويل المقبول في مقابلة التأويل المرفوض:
 أولا: رعاية المناسبة القريبة بين ظهر الكلام وبطنه، أي بين الدلالة الظاهرية وهذه الدلالة الباطنية للكلام، فلا تكون أجنبية، لا مناسبة بينها وبين اللفظ أبدًا فإذا كان التأويل - كما عرفناه - هو المفهوم العام المنتزع من فحوى الكلام، كان لا بد أن هناك مناسبة لفظية أو معنوية استدعت هذا الانتزاع.
مثلا: لفظة ﴿الميزان﴾ وضعت لآلة الوزن المعروفة ذات الكفتين، وقد جاء الأمر بإقامتها وعدم البخس فيها، في قوله تعالى: ﴿وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان﴾ (1).
 لكننا إذا جردنا اللفظ من قرائن الوضع وغيره وأخلصناه من ملابسات الأنس الذهني، فقد أخذنا بمفهومه العام:كل ما يوزن به الشي، أي شي كان ماديًّا أم معنويًّا، فإنه يشمل كل مقياس أو معيار كان يقاس به أويوزن به في جميع شؤون الحياة، ولا يختص بهذه الآلة المادية فحسب.
 قال الشيخ أبوجعفر الطوسي: فالميزان آلة التعديل في النقصان والرجحان، والوزن يعدل في ذلك ولولا الميزان لتعذر الوصول إلى كثير من الحقوق، فلذلك نبه تعالى على النعمة فيه والهداية إليه وقيل: المراد بالميزان: العدل، لأن المعادلة موازنة الأسباب (2).
وروى محمد بن العباس المعروف بماهيار ﴿ت ح330﴾ - في كتابه الذي وضعه لبيان تأويل الآيات - بإسناده إلى الإمام الصادق (ع) قال: الميزان الذي وضعه اللّه للأنام، هو الإمام العادل الذي يحكم بالعدل، وبالعدل تقوم السماوات والأرض، وقد أمر الناس أن لا يطغوا عليه ويطيعوه بالقسط والعدل، ولا يبخسوا من حقه، أويتوانوا في امتثال أوامره (3).
وهكذا قوله تعالى: ﴿قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورًا فمن يأتيكم بماء معين﴾ (4) كانت دلالة الآية في ظاهر تعبيرها واضحة، أن نعمة الوجود ووسائل العيش والتداوم في الحياة، كلها مرهونة بإرادته تعالى وفق تدبيره الشامل لكافة أنحاء الوجود.
 واللّه تعالى هو الذي مهد هذه البسيطة لإمكان الحياة عليها، ولولا فضل اللّه ورحمته لعباده لضاقت عليهم الأرض بما رحبت.
هذا هو ظاهر الآية الكريمة، حسب دلالة الوضع والمتفاهم العام.
وللامام أبي جعفر الباقر (ع) بيان يمس جانب باطن الآية ودلالة فحواها العام، قال: ﴿إذا فقدتم إمامكم فلم تروه فماذا تصنعون﴾.
وقال الإمام على الرضا (ع): ﴿ماؤكم: أبوابكم الأئمة، والأئمة: أبواب اللّه فمن يأتيكم بماء معين، أي يأتيكم بعلم الإمام﴾(5).  
لا شك أن استعارة ﴿الماء المعين﴾ للعلم النافع، ولا سيما المستند إلى وحي السما - من نبي أو وصي نبي – أمر معروف ومتناسب لا غبار عليه.
فكما أن الماء أصل الحياة المادية والمنشأ الأول لإمكان المعيشة على الأرض، كذلك العلم النافع وعلم الشريعة بالذات، هو الأساس لإمكان الحياة المعنوية التي هي سعادة الوجود والبقاء مع الخلود.
﴿يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم﴾ (6).
 ﴿لقد من اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾ (7).
فهنا قد لوحظ الماء - وهو أصل الحياة - في مفهومه العام المنتزع منه الشامل للعلم، فيعم الحياة المادية والمعنوية.
 وأيضا قوله تعالى: ﴿فلينظر الإنسان إلى طعامه﴾ (8)، أي فليمعن النظر في طعامه، كيف عملت الطبيعة في تهيئته وتمهيد إمكان الحصول عليه، ولم يأته عفوًا، ومن غير سابقة مقدمات وتمهيدات لو أمعن النظر فيها، لعرف مقدار فضله تعالى عليه، ولطفه ورحمته، وبذلك يكون تناول الطعام له سائغًا، ومستدعيًا للقيام بالشكر الواجب.
 هذا، وقد روى ثقة الإسلام الكليني بإسناده إلى زيد الشحام، قال: سألت الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) قلت: ما طعامه؟ قال: ﴿علمه الذي يأخذه عمن يأخذه﴾ (9).
 والمناسبة هنا - أيضًا - ظاهرة، لأن العلم غذاء الروح، ولا بد من الاحتياط في الأخذ من منابعه الأصيلة، ولاسيما علم الشريعة وأحكام الدين الحنيف.

وثانيًا: مراعاة النظم والدقة في إلغاء الخصوصيات المكتنفة بالكلام، ليخلص صفوه ويجلو لبابه في مفهومه العام، الأمر الذي يكفله قانون ﴿السبر والتقسيم﴾ من قوانين علم الميزان ﴿علم المنطق﴾ والمعبر عنه في علم الأصول: بتنقيح المناط، الذي يستعمله الفقهاء للوقوف على الملاك القطعي لحكم شرعي، ليدور التكليف أو الوضع معه نفيًا وإثباتًا، ولتكون العبرة بعموم الفحوى المستفاد، لا بخصوص العنوان الوارد في لسان الدليل وهذا أمر معروف في الفقه، وله شرائط معروفة.
ومثال تطبيقه على معنى قرآني، قوله تعالى - حكاية عن موسى (ع): ﴿قال رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين﴾ (10).
 هذه قولة نبي اللّه موسى (ع) قالها تعهدًا منه للّه تعالى، تجاه ما أنعم عليه من البسطة في العلم والجسم: ﴿ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكمًا وعلمًا وكذلك نجزي المحسنين﴾ (11) قضى على عدوله بوكزة وكزه بها، فحسب أنه قد فرط منه ما لا ينبغي له، فاستغفر ربه فغفر له فقال ذلك تعهدًا منه للّه، أن لا يستخدم قواه وقدرته الذاتية، والتي منحه اللّه بها، في سبيل الفساد في الأرض، ولا يجعل ما آتاه اللّه من إمكانات معنوية ومادية في خدمة أهل الإجرام.
 هذا ما يخص الآية في ظاهر تعبيرها بالذات.
وهل هذا أمر يخص موسى (ع) لكونه نبيًّا ومن الصالحين، أم هو حكم عقلي بات يشمل عامة أصحاب القدرات، من علماء وأدباء وحكماء وأرباب صنائع وفنون، وكل من آتاه اللّه العلم والحكمة وفصل الخطاب؟ لا ينبغي في شريعة العقل أن يجعل ذلك ذريعة سهلة في متناول أهل العبث والاستكبار في الأرض، بل يجعلها وسيلة ناجحة في سبيل إسعاد العباد وإحياء البلاد ﴿هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها﴾ (12).
 وهذا الفحوى العام للآية الكريمة إنما يعرف وفق قانون ﴿السبر والتقسيم﴾ والغاء الخصوصيات المكتنفة بالموضوع، فيتنقح ملاك الحكم العام.
وفي القرآن كثير من هذا القبيل، إنما الشان في إمعان النظر والتدبر في الذكر الحكيم، وبذلك يبدو وجه استفادة فرض الأخماس من آية الغنيمة، ودفع الضرائب من آية الإنفاق في سبيل اللّه.


1- الرحمن / 9.
2- التبيان، ج9، ص 463.
3- نقلا بالمعنى، راجع: تأويل الايات الظاهرة للسيد شرف الدين الاسترابادي، ج2،ص 632  633.
4- الملك / 30.
5- تفسير الصافي، الفيض الكاشاني، ج2، ص 727، وراجع: تأويل الايات الظاهرة، ج2،ص 708.
6- الانفال / 24.
7- آل عمران / 164.
8- عبس / 24.
9- تفسير البرهان، ج4، ص 429.
10- القصص / 17.
11- القصص / 14.
12- هو د/ 61.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة