قرآنيات

الباغي والعادي


الشيخ محمد هادي معرفة ..
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(1).
 وقال: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(2).
 وقال: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(3).
 وقد اختلفت الأقوال في تفسير الباغي والعادي اللذين لم يُرخّص لهما تناول الحرام في حالة الاضطرار أيضاً...


 قال الشيخ أبو جعفر الطوسي:
في معناهما ثلاثة أقوال:
أولها - غير باغٍ اللَّذة، ولا عادٍ سدَّ الجوعَة. وهو قول الحسن، وقتادة، ومجاهد، والربيع، وابن زيد.
والثاني - ما حكاه الزجّاج: غير باغ في الإفراط، ولا عاد بالمعصية في التقصير.
والثالث - غير باغٍ على إمام المسلمين، ولا عادٍ بالمعصية طريق المحقّين. وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد. وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السلام(4).
 غير أن هناك آيتين أخريين تعرّضتا للموضوع نفسه، وهو إباحة تناول الحرام عند الضرورة إليه، إحداهما وردت مطلقة من غير ما تقييد، وهي قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ...﴾(5).
 والأخرى جاءت مقيّدة بقيدين يختلفان تعبيراً عن الآيات الثلاث الآنفة. قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(6).
فلفظة ﴿فِي مَخْمَصَةٍ﴾ حلّت محل ﴿غَيْرَ بَاغٍ﴾...
ولفظة ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ﴾ حلّت محل ﴿وَلاَ عَادٍ﴾...
فهل هناك من علاقة بين العنوانين في كلّ من الوصفين؟
قال الراغب: في مخمصة أي مجاعة، تُورث خمص البطن أي ضُمُوره...
قال: أصل الجَنَف مَيْلُ في الحكم، فقوله ﴿فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا﴾(7) أي ميلاً ظاهراً.
وبذلك صحّ تفسير الباغي والعادي في الآيات الثلاث الأولى، بما جاء في هذه الآية من تبيين، إذ قوله تعالى: ﴿فِي مَخْمَصَةٍ﴾ يعني أنه وقع في ضرورة أتته رغم إرادته ولم يكن هو الذي أتاها رغبةً في الحرام...
وقوله: ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ﴾ أي غير مائل إلى ارتكاب الإثم بتناول فوق سد الجوعة، وذلك أن ما يسدّ به الرمق هو حد الضرورة المبيحة لتناول الحرام، أما الزائد على ذلك فهو مما لم يرخص له ولا شملته شريعة الإباحة عند الاضطرار، إذ لا اضطرار إلى الزائد على مقدار الضرورة.
وهذا هو الوجه الأول من الوجوه الثلاثة التي ذكرها الشيخ، فالباغي على هذا هو طالب الالتذاذ من الحرام أوقع نفسه في ضرورة تلجئه إلى تناول الحرام وقوعاً عن اختيار... فهو الذي أتى الضرورة رغبة في الحرام ولم يكن بالذي أتته الضرورة رغم إرادته.
والعادي: هو الذي يتجاوز عن المقدار الذي تندفع الضرورة به، فهو يتجانف أي يميل إلى ارتكاب الإثم بتناول الزائد على سدّ الرمق...
وعليه فقد تبيّن أن البغي - هنا - بمعنى الطلب، وليس بمعناه الآخر: البغي والفساد في الأرض.
كما أن العدوان هنا يعني الصبيان الخاص بتناول الزائد عن المقدار المباح، لا مطلق العصيان. نظير الإثم المقصود به خصوص الإثم المرتَكب هنا بتجاوز الحدّ المباح، وليس مطلق الإثم...
إذ لو أريد مطلق الإثم والعصيان، لم يكن متناسباً مع موضوع الحكم ذلك التناسب القائم معه في صورة إرادة الخصوص... فكأنه أريد جانب المنفي من الحكم في صورة فقد الموضوع، عند تجاوز حدّ الضرورة...
هذا فضلاً عن أنه لو كان أريد به ارتكاب مطلق الإثم، لم تعد لهذا الاستثناء فائدة، إذ لا يخلو امرؤ من ارتكاب إثمٍ مهما كان صادقاً في إيمانه... ولاختص الترخيص بالمعصوم حينذاك.
وقول بعضهم: اختصاصُه بقطع سبيل المسلمين أو نحو ذلك... رجم بالغيب وتخصيص من غير مخصّص أو ترجيح من غير دليل...

ولعلّك تقول: هب أنّه وقع في الضرورة وكان فاقداً للوصفين، فهل لا يجب عليه حفظ الحياة أو يموت رغم إمكان الإبقاء على الحياة بتناول الحرام؟!
قلت: لا منافاة حينذاك بين وجوب حفظ النفس، ومعاقبته على ارتكاب الإثم... فرقاً بينه وبين واجد الوصف الذي لا يعاقب على تناول الحرام... أنه ألقى بنفسه في التهلكة اختياراً... فمن جهة يجب عليه حفظ نفسه، ومن جهة أخرى يعاقب على اختياره هذا المسير المظلم... والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار...
وعليه فلا وقع لما استشكله الرمّاني في المقام: (بأنه تعالى لم يبح لأحد قتل نفسه، بل حظر عليه ذلك، والتعريض للقتل قتل في حكم الدين. ولأنّ الرخصة إنما كانت لأجل المجاعة المتلفة، لا لأجل الخروج في طاعة وفعل إباحة...)(8).
ذلك أنه - على الفرض - لم يستبح له قتل نفسه، بل يجب عليه حفظها بتناول الحرام بما يسد رمقه... نعم يعاقب عليه، لأنه فرّط في جنب اللّه وأقدم على ارتكاب الحرام باختياره هذا المسير في بداية المطاف.
وهناك روايات تفسّر الآية على غير هذا الوجه:
ففي مرسلة البزنطي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: الباغي: الذي يخرج عن الإمام، والعادي: الذي يقطع الطريق، لا تحلُ له الميتة...
وفي حديث عبد العظيم الحسني مع الإمام الرضا عليه السلام: العادي: السارق، والباغي: الذي يبغي الصيد بطراً ولهواً، لا ليعود به على عياله. ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرّا، هي حرام عليهما في حال الاضطرار كما هي حرام عليهما في حال الاختيار...
وعن حمّاد بن عثمان عن الإمام الصادق عليه السلام: الباغي: باغي الصيد، والعادي: السارق...(9).
ولصاحب الجواهر قدس سره كلام حول هذه الروايات: أنّه يرى عدم ثبوت حجيتها، ومن ثَمّ فسّر الباغي والعادي بما في آية اخرى من التعبير بالمتجانف لإثم، لأن باغي الحرام والعادي عن المقدار الحلال، كلاهما عامدان إلى تناول المحرّم، وليست الضرورة دعتهما إلى ذلك، وكان الاختيار والاضطرار بالنسبة اليهما واحداً في القصد إلى ارتكاب الإثم...
 إذن فليست الرخصة الخاصة بالمضطر، مما يشملهما، قال: وحينئذٍ فيكون المراد الرخصة للمضطرّ من حيث كونه كذلك. لا المتناول لها القادم على الإثم أو المستحل لها، فإنه لا رخصة لهما ولو في حال الاضطرار، ضرورة عدم كون الباعث لهما الاضطرار، بل البغي والعدوان، أي التجانف للإثم في أكل الميتة... بل في الحقيقة لا اضطرار بالنسبة إلى مثله، ضرورة عدم حالة امتناع له مطلقاً... والمنساق من قوله ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ الرخصة للممتنع حال الاختيار إن اتفق اضطراره...
قال: فحينئذٍ يكون قوله تعالى ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ﴾ حالاً مؤكدة وكاشفة، وكذا قوله ﴿غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ﴾ بناءً على إرادة معنى غير متجانف للإثم منهما...
قال: ولا ينافي ذلك النصوص المزبورة التي لم تثبت حجّيتها... ومع التسليم يكون ما فيها أمراً آخر تنتفي الرخصة أيضاً مضافاً إلى ذلك...(10).
 
1- البقرة: 173.
2- الانعام: 145.
3- النحل: 115.
4- تفسير التبيان 2: 86.
5- الانعام: 119.
6- المائدة: 3.
7- البقرة: 182.
8- ذكره الشيخ في التبيان 2: 86.
9- وسائل الشيعة 16: 479 - 480 باب 56 الاطعمة المحرّمة رقم 5 و 1 و 2.
10- جواهر الكلام 36: 430.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد