قرآنيات

أنواع معرفة القرآن 2


الشهيد مرتضى المطهري ..
الثاني: المعرفة التحليلية
في هذه المرحلة يكون تحليل الكتاب هو موضع الدراسة، أي دراسة ما يشتمل عليه الكتاب من مطالب، وما يقصد إليه من أهداف، ما هي نظرته إلى الكون؟ وإلى الإنسان؟ وإلى المجتمع؟ ما هي طريقة عرضه لتلك المطالب وأسلوب معالجته إياها؟ أينطوي على منظور فلسفي، أو كما نقول اليوم، أفيه منظور علمي؟ أينظر إلى الأمور بعين العارف، أم أن له أسلوبه الخاص؟ وثمة سؤال آخر: أيحمل هذا الكتاب رسالة ما موجهة للبشرية؟ فاذا كان الجواب بالإيجاب، فما هي تلك الرسالة؟
في الواقع إن المجموعة الأولى من الأسئلة تتعلق بوجهة نظر الكتاب في الكون والإنسان والحياة والموت، أو بعبارة أشمل تتعلق بوجهة نظره الكونية، وهو ما يصطلح عليه فلاسفتنا اليوم بحكمته النظرية.أما المجموعة الأخرى من الأسئلة فتتعلق بما إذا كان الكتاب يعرض خطة لمستقبل الإنسان، وعلى أي طراز يريد أن يبني الإنسان والمجتمع؟ وهذا ما نطلق عليه اسم: رسالة الكتاب.
على كل حال، هذا الضرب من المعرفة يخص المحتوى، ويمكن إخضاع أي كتاب إلى هذه المعرفة سواء أكان كتاب "الشفاء" لابن سينا، أو ديوان "كلستان" لسعدي.
 وقد نجد كتابًا ليس فيه (منظور) ولا (رسالة) أو قد يكون له (منظور) بغير رسالة، أو قد يضمهما كليهما.
أما من حيث معرفة القرآن معرفة تحليلية، فينبغي علينا أن نعرف المسائل التي يتناولها وكيفية تناوله إياها، وكيف تكون استدلالاته ومجادلاته في مختلف المواضيع.
 وإذا كان القرآن حارس الإيمان ومحافظًا له، ورسالته رسالة الإيمان، فهل ينظر إلى العقل بعين الرقيب المنافس محاولًا صد هجماته، أو أنه بالعكس ينظر دائمًا إلى العقل بعين الحامي والمدافع محاولًا الاستعانة به؟ هذه الأسئلة، ومئات غيرها مما يطرح خلال المعرفة التحليلية، هي التي تقودنا إدراك ماهية القرآن.


الثالث: معرفة الأصل     
في هذه المرحلة، وبعد الاطمئنان إلى نسبة الكتاب إلى مؤلفه، وبعد التحليل التام لمحتواه، علينا أن نبدأ البحث لنعرف إن كانت محتويات الكتاب ومطاليبه من إبداعات فكر المؤلف نفسه، أم إنها مدينة إلى أفكار الآخرين.
ففيما يتعلق بديوان حافظ، مثلًا، وبعد الانتهاء من مرحلتي المعرفة المستندية والمعرفة التحليلية، علينا أن نتساءل إن كانت هذه الأفكار والآراء التي أفرغها حافظ في قوالب الكلمات والجمل والأبيات، وعبر عنها بلغته الخاصة، قد ابتدعها بنفسه، أم إن أبوتّه لها إنما تقتصر على الألفاظ والكلمات وجمالها الفني فحسب، وإن الأفكار والآراء تخص غيره من الناس؟ وبعبارة أخرى إننا بعد أن نتأكد من أصالة حافظ الفنية، ينبغي أن نتأكد من أصالته الفكرية أيضًا.
هذا النوع من المعرفة بخصوص حافظ أو أي مؤلف آخر هو معرفة أصول أفكار المؤلف وآرائه.وهذه المعرفة فرع يتفرع من المعرفة التحليلية.أي إننا يجب أولا أن نعرف محتوى أفكار المؤلف بدقة، ومن ثم نتوجه إلى معرفة أصوله، وبغير هذه الطريقة يكون حاصل عملنا مشابها لما يقوم به بعض المؤلفين في كتابة تاريخ العلوم بدون أن يكون لهم أي علم بها.أو مثل بعض المؤلفين الذين يكتبون في الفلسفة، كأن يكتبوا عن ابن سينا وأرسطو ويحاولون إيجاد ما يتشابهان فيه وما يختلفان، ولكنهم مع الأسف لا يعرفون ابن سينا ولا أرسطو.
 إنهم ما إن يجدوا عندهما بعض الألفاظ المتشابهة، حتى يأخذوا بإصدار الأحكام، مع إن عليهم عند المقارنة أن يتعمقوا في فهم الفكرة، وإن التعمق في إدراك عمق أفكار أشخاص مثل ابن سينا وأرسطو ليستغرق عمرًا بأكمله، وليس ما يقال غير ذلك سوى تخمين وخبط عشواء.
عند بحث القرآن ومعرفته، وبعد أن نكون قد أنجزنا مطالعتنا التحليلية، يأتي دور المقارنة والمعرفة التاريخية.
وهذا يعني أن علينا أن نقارن القرآن بكل محتوياته مع كتب أخرى كانت موجودة في عصره، وعلى الأخص الكتب الدينية.
فإذا كان هذا العالم واقفًا على آداب زمانه، ومطلعًا على سير العلماء وسلوكهم، ومتعمقًا في معرفة متصوفة عصره، بحيث إنه استطاع أن يضع كل ذلك في الشعر بأفضل مما يستطيعه أي شاعر آخر، فهل كان عرضه لتلك الأفكار متأثرًا بأحد ممن سبقه؟ أم أن ذلك كان من ابتداعه وابتكاره؟ وهل أن لمحي الدين الأندلسي، الذي يعد أبا التصوف الإسلامي، أي أثر على حافظ؟ أفهل يستبعد أن يكون لابن الفارض المصري - وهو أسبق من حافظ، ولا يقل مكانة في الأدب الصوفي العربي عن مكانة حافظ في الأدب الفارسي - تأثيره في التكوين الشكلي لأفكار حافظ؟ إن وظيفة (معرفة الأصل) هي البحث في أمثال هذه المسائل وإيجاد الإجابة عليها.
ولإجراء هذه المقارنة لا بد من توفر جميع الشروط، مثل مدى ارتباط شبه الجزيرة العربية بالمناطق الأخرى، ونسبة الذين كانوا يعرفون القراءة والكتابة يومئذ في مكة...الخ.ثم نقوم بالتقويم والتقدير.
ترى هل كل ما وجد في القرآن موجود أيضًا في كتب أخرى؟ فإذا وجد، فما هي نسبة وجوده؟ وهل إن المطالب الموجودة في الكتب الأخرى تتخذ شكل الاقتباس أم إنها مستقلة، أم إنها لا تعدو أن تكون مجرد تصحيحات وتوضيحات لما قد يكون فيها من تحريف؟

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد