قرآنيات

التقسيمات والطبقات الاجتماعية


الشهيد مرتضى مطهري ..

المجتمع مع أنه يتمتع بنوع من الوحدة ينقسم في نفسه _على وجه العموم أو في بعض الموارد على الأقل _ إلى طوائف وطبقات وأصناف مختلفة وقد تكون متضادة. إذن فالمجتمع له وحدة في عين الكثرة، وكثرة في عين الوحدة _حسب اصطلاح فلاسفة الإسلام_.


نوعية الكثرة في المجتمع: هناك نظريتان هما:
الأولى: النظرية المبتنية على المادية التاريخية والتناقض الديالكتيكي. وهذه النظرية تقول: إن الكثرة في المجتمع تتبع الملكية الفردية، فالمجتمعات الفاقدة للملكية الفردية كالمجتمع الإشتراكي البدائي، والمجتمع الإشتراكي الموعود مجتمعات لا طبقية. وأما المجتمعات التي تتحكم فيها الملكية الفردية فتنقسم إلى طبقتين بالضرورة. إذن فالمجتمع إما أن يكون ذا طبقة واحدة أو ذا طبقتين، وليس هناك قسم ثالث. والأفراد ينقسمون في المجتمع ذي طبقتين إلى أفراد مستثمرين وأفراد تحت الاستثمار، ولا يوجد سوى معسكرين: المعسكر الحاكم، والمعسكر المحكوم. وتنقسم سائر الشؤون الاجتماعية بنفس التقسيم، كالفلسفة والأخلاق والدين والفن. فيكون في المجتمع نوعان من كل منها، يطابق كل منهما التفكير الخاص لإحدى الطبقتين الاقتصاديتين. ولو كان هناك نوع واحد من الفلسفة أو الأخلاق أو الدين فهو يأخذ أيضاً صبغة التفكير الخاص للطبقة الحاكمة التي استطاعت فرض آرائها وأفكارها على الطبقة الأخرى. ولا يمكن وجود فلسفة أو فن أو دين أو أخلاق خارج عن نطاق التفكير لطبقة اقتصادية.
الثانية: النظرية القائلة بأن وحدة الطبقة في المجتمع وتكثّرها لا يتبع أصل الملكية الفردية فحسب، بل هناك عدة عوامل يمكن أن تؤثر في ذلك، كالعامل الثقافي أو الاجتماعي أو العنصري أو العقائدي، وخصوصاً العوامل الثقافية والعقائدية، فإن لها تأثيراً كبيراً في تقسيم المجتمع لا إلى طبقتين فحسب، بل إلى طبقات متضادة، كما إن لها إمكانية التأثير في توحيد طبقات المجتمع من دون أن تستلزم إلغاء الملكية الفردية.
وهنا لابد من مراجعة القرآن لنرى موقفه تجاه التكثّر في المجتمع، وأنه على افتراض قبوله للتكثر والاختلاف فهل هو منحصر في الطبقتين على أساس الملكية والاستثمار أم لا؟ الظاهر أن من المستحسن في استنباط النظرية القرآنية هو استخراج المفردات الاجتماعية الواردة في القرآن، وتشخيص وجهة نظره في تفسيرها وتحديد مفاهيمها.


واللغات الاجتماعية في القرآن على قسمين:
1_ ما يرتبط بظاهرة اجتماعية خاصة كالملة والشريعة والشرعة والمنهاج والسنة ونظائرها. وهذا القسم خارج عن محل البحث.
2_ ما يحكي عن عنوان اجتماعي ينطبق على جميع أفراد البشر،أو طوائف منه. وهذه المفردات هي التي يمكن أن تعين وجهة النظر القرآنية فيما نحن بصدده، نحو قوم، أمة، ناس، شعوب، قبائل، رسول، نبي، إمام، ولي، مؤمن، كافر، منافق، مشرك، مذبذب، مهاجر، مجاهد، صديق، شهيد، متقي، صالح، مصلح، مفسد، الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، عالم، ناصح، ظالم، خليفة، رباني، ربّيّ، كاهن، رهبان، أحبار، جبار، عالي، مستعلي، مستكبر، مستضعف، مسرف، مترف، طاغوت، ملأ، ملوك، غني، فقير، مملوك، مالك، حر، عبد، رب وغيرها.


وهناك بعض المفردات الشبيهة بهذا القسم من قبيل مصلي، مخلص، صادق، منفق، مستغفر، تائب، عابد، حامد ونظائرها، ولكنها تحكي عن أفعال الإنسان لا عن طوائف منه. ومن هنا لا يحتمل فيها أن تكون حاكية عن التقسيمات الاجتماعية.
ولابد من ملاحظة الآيات التي ورد فيها القسم الثاني من المفردات السابقة، خصوصاً ما كانت مرتبطة باتخاذ الموقف الخاص تجاه المسائل الاجتماعية، ولابد من التعمق فيها ليتضح أنها هل توافق على تقسيم المجتمعات إلى طائفتين أم إلى طوائف؟ ولو فرضنا تقسيم المجتمعات إلى طائفتين فما هي الخصيصة الأصلية لهما؟ فمثلاً هل يمكن درجهما في طائفتي المؤمن والكافر ليكون أساس التقسيم هو الفارق الاعتقادي، أو درجهما في طائفتي الغنى والفقر على أساس الفارق الاقتصادي؟.
وبعبارة أخرى لابد من ملاحظة هذه التقسيمات لنرى أنها هل ترجع إلى تقسيم أساس تتفرع منه سائر التقسيمات أم لا؟
ولو كان كذلك فما هو ذلك التقسيم الأساس؟
هناك من يدعي أن موقف القرآن من المجتمع يبتني على أساس انقسامه إلى طبقتين، وأن المجتمع حسب النظرة القرآنية ينقسم في المرتبة الأولى إلى طبقة حاكمة مسيطرة مستثمرة، وطبقة محكومة تحت السلطة والاستثمار، وأن القرآن يعبر عن الطبقة الحاكمة بالمستكبرين، وعن الطبقة المحكومة بالمستضعفين، وأن سائر الانقسامات كالانقسام إلى المؤمن والكافر، وإلى الموحد والمشرك، وإلى الصالح والفاسد انقسامات فرعية. فالاستكبار والاستثمار ينتهيان إلى الكفر والشرك والنفاق ونظائرها، والاستضعاف ينتهي إلى الإيمان والهجرة والجهاد والصلاح والإصلاح ونظائرها.

وبعبارة أخرى: إنّ منشأ ما يعده القرآن انحرافاً عقائدياً أو خلقياً أو عملياً هو الوضع الخاص الاقتصادي أي الاستثمار، ومنشأ ما يؤيده القرآن من عقيدة أو خلق أو عمل هو الكون تحت الاستثمار والظلم. والوجدان البشري يتبع بالطبع والضرورة حياته المادية الاقتصادية، ولا يمكن تغيير الوضع الروحي والنفسي والخلقي من دون تغيير في الحياة المادية. ومن هنا يعد القرآن النضال الاجتماعي في صورة الصراع الطبقي صحيحاً وأساسياً. والقرآن يرى أن الكفار والمنافقين والمشركين والفاسدين والفاسقين والظالمين يبعثون من بين الطوائف التي يعبر عنها القرآن بالمترفين والمسرفين والملأ والملوك والمستكبرين ونظائرهم، ولا يمكن أن ينبعثوا من الطبقة المقابلة. كما أن الأنبياء والرسل والأئمة والصديقين والشهداء والمجاهدين والمهاجرين والمؤمنين يبعثون من بين الطبقة المستضعفة، ولا يمكن أن ينبعثوا من الطبقة المقابلة. فالاستكبار والاستضعاف هما يصنعان الوجدان الاجتماعي، ويبعثان على الاتجاهات المختلفة. وكل الشؤون الأخرى مظاهر وتجليات استضعاف الآخرين، أو الوقوع تحت استضعاف الآخرين.
والقرآن لم يكتف بعدّ الطوائف المذكورة من مظاهر الطبقة الأصلية (الاستكبار والاستضعاف)، بل أشار إلى عدة من الصفات والملكات الحسنة من قبيل الصدق والعفاف والإخلاص والعبادة والبصيرة والرأفة والرحمة والفتوّة والخشوع والإنفاق والإيثار والخشية والتواضع، واعتبرها جميعاً خصال المستضعفين. وأشار إلى عدة من الصفات والملكات السيئة من قبيل الكذب والخيانة والفجور والرياء واتباع الهوى وعمى القلب والقساوة والبخل والتكبر ونحوها، واعتبرها جميعاً من خصال المستكبرين.

فالاستكبار والاستضعاف ليسا أساس الانقسام إلى الطوائف المختلفة والمتناقضة فحسب، بل هما أيضاً أساس الصفات والملكات الخلقية المتضادة. وهما الأساس في جميع الاتجاهات والعقائد والمسالك، بل جميع الآثار الثقافية والحضارية. فكل من الأخلاق والفلسفة والفن والأدب والدين إذا كان ناشئاً من الطبقة المستكبرة كان حاكياً عن اتجاهها الاجتماعي وممثلاً له، ولذلك نراها كلها بصدد توجيه الوضع الموجود وعاملاً للتوقف والركود والجمود، خلافاً للأخلاق أو الفلسفة أو الآداب أو الفن أو الدين المنبعث من الطبقة المستضعفة حيث يكون موجّهاً ومبعثاً للحركة والثورة. فالطبقة المستكبرة حيث أنها تستضعف الآخرين، وتستولي على حقوقهم الاجتماعية، تكون بالطبع متأخرة الفكر رجعية طالبةً للعافية والسلم، خلافاً للطبقة المستضعفة حيث تكون بصيرةً مطّلعةً مخالفة للتقاليد ثوريةً تقدميةً متحركةً.
والخلاصة أن اصحاب هذه الدعوى يعتقدون أن القرآن يؤيد النظرية القائلة، بأن كل ما يصنع شخصية الإنسان، ويشخص الطائفة التي تنتمي إليها، والجهة التي يسير نحوها، ويعين قاعدته الفكرية والخلقية والدينية والعقائدية هو وضعه الاقتصادي. وعلى هذا الأساس بنى القرآن تعاليمه القيمة حسبما يستفاد من مجموع الآيات.
ومن هنا فإن المقياس لمعرفة صدق الدعاوى وكذبها من قبيل دعوى الإيمان والإصلاح والقيادة، وحتى النبوة والإمامة هو الانتماء إلى الطبقة الخاصة، فهو ملاك كل شيء.
هذه النظرية _في الواقع _ تبتني على التفسير المادي المحض للإنسان والمجتمع. ومما لا شك فيه أن القرآن يهتم كثيراً بالقاعدة الاجتماعية للإنسان، إلا أن هذا لا يعني أنه يجعل ذلك مقياساً لجميع التقسيمات الطبقية. ونحن نعتقد أن هذا النوع من التفسير الاجتماعي لا ينطبق مع وجهة النظر الإسلامية حول الإنسان والعالم والمجتمع، وأن منشأ ذلك هو النظرة السطحية للمباحث القرآنية.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد