قرآنيات

تفسير سورة العصر (1)


الشهيد مرتضى مطهري ..

﴿وَالْعَصْرِ (العصر/1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (العصر/2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (العصر/3)﴾
حديثنا يتناول سورة العصر المباركة التي لا تتجاوز آياتها السطر ونصف السطر، في القرآن ثلاث سور قصيرة، وهي سورة الكوثر، وسورة الأخلاص، وسورة العصر، وهذه لا تتجاوز آيات ثلاثاً، ولكنها سورة يمكن أن يكتب حولها مجلد ضخم، يعتمد ما سوف نبينه من أصول، هذه السورة واحدة من السور التي تبدأ بالقسم. والعصر قسم بالعصر. وهي تبدأ بآية تتألف من كلمتين: الواو و﴿الْعَصْرِ﴾.
 لقد سبق أن تكلمنا كثيراً على القسم في القرآن، فلا حاجة إلى تكرار ما قلناه، سوى ما يقتصر على موضوعنا هنا، نجد القرآن يقسم أحياناً بالزمان، بأوقات مختلفة من الزمان، بالنهار، وبالليل وبالضحى إلى غير ذلك، قلنا فيما سبق إن لكل من هذه الأزمان حكمته وفلسفته الخاصة التي تكشف عن أهمية ذلك بالنسبة للإنسان، عن قيمة الفجر والضحى والليل والنهار في حياة الإنسان، قلنا إن الآية الأولى تتألف من كلمتين، الواو و﴿الْعَصْرِ﴾ الواو معروفة. والكلام على ﴿الْعَصْرِ﴾ فأي عصر هو المقصود؟ هنالك احتمالان من بين الاحتمالات المذكورة، وأحد هذين الاحتمالين يرد أكثر من الآخر. الاحتمال الأول هو هذه الفترة المعينة من النهار، وهي الربع الأخير من النهار، وهي الفترة التي تقابل الضحى عندما ترتفع الشمس كثيراً في السماء، يطلق على هذه الفترة اسم "الضحى". ثم إذا أخذنا النصف الثاني من النهار بعد الظهر، وقسمناه إلى قسمين، يسمى القسم الثاني باسم "العصر".

 والاحتمال الثاني لا يعتبر العصر كجزء من النهار، بل كجزء من التاريخ، كأن نقول (عصر الرسول) وهذا يعني فترة من التاريخ تشمل فترة دورة حياة الرسول، أو باعتبارات مختلفة أخرى، كأن تقوم كل مجموعة بتقسيم التاريخ إلى عصر العبودية، أو عصر الإقطاع، أو عصر الرأسمالية، أو قد يقسم بعضهم الآخر التاريخ إلى عصر حجري، وعصر الحديد، وعصر الذرة، وعصر الفضاء، الخ.
 والحالة التي نحن بصددها هي عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي أقسم بعصر الرسول، لطالما قلنا إن الزمان من حيث كونه زماناً لا يختلف جزء منه عن جزء آخر. فالزمان امتداد واحد من الأزل إلى الأبد، ولا فرق بين أجزائه، ولكن الاختلاف يأتي من حيث وجهة نظر الإنسان إلى أي جزء من أجزاء الزمان، فالزمان من حيث ارتباطه بالإنسان، ومن حيث ارتباط الإنسان به، يتفاوت في الاختلاف، فثمة عصر هو عصر الإنسانية والتفتح، عصر الإنسان الكامل، فلهذا العصر مثلًا، لون من القدسية.

 فإذا أراد القرآن أن يبين أهمية ذاك العصر، يقسم به، فيقول: أقسم بعصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقد يكون زمان ما، من هذا المنظور، أمّا لزمان آخر، أي إنه يؤثر في خلق زمان آخر، سواء أكان ذاك العصر سيئًا أم رديئًا، أي قد يظهر عصر طيب، يكون خلال دورة التاريخ أُمّا، أو أرضية للطيبة والخير على امتداد التاريخ.
 أي إن الإنسان عندما ينظر إلى ذلك العصر، ويمعن النظر فيه، يرى أن كل ما كان في ذلك العصر يلهمه الخير، والطيبة، والسعادة، أو قد يكون على عكس ذلك تمامًا، أي قد يكون عصرًا من العصور المظلمة في التاريخ، عصر ظلام وحلوكة آسنة قذرة، مع ذلك يكون أما لعصور سود سيئة، ﴿وَالْعَصْرِ﴾ قسم بذاك العصر النير، العصر المسخر للبشر، العصر المبارك الكثير الخير الذي بزغ على البشر، أي عصر يبلغ من حيث قدرته على استيلاد البركة شأو تلك السنوات الثلاث والعشرين من عصر الرسول. ذلك العصر الذي قسم به القرآن.

 ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ سبق أن نوهنا مرارًا وقلنا إن من أسس معرفة الإنسان، وأسس معرفة الإنسان التي يصدق بها القرآن، هو أن الإنسان يختلف اختلافًا جوهريًّا وأصيلًا عن كل الكائنات الحية وغير الحية، سواء أكانت دنيوية طبيعية أم مما وراء الطبيعة أو فوقها. وهذا الاختلاف هو أن الإنسان كائن يولد في هذه الدنيا بالقوة، لا بالفعل. فما معنى هذا؟ إذا نظرنا إلى الإنسان عند ولادته نجده كائنًا كاملًا من حيث أجهزته وأعضائه (أي إنه ولد مصنوعًا) إذ أنه قبل أن يولد من أمه، يتكامل عنده جهاز البصر، وجهاز السمع، جهاز التنفس، وجهاز الدورة الدموية، ويداه، ورجلاه ويكمل كل هيكله، مثل السيارة التي تخرج من المصنع، إلا أن الإنسان بإنسانيته، لا بكمال أعضائه. إنه إنسان له شخصيته، وهذه الشخصية هي التي تبدأ بالتكون، أي إنها تشرع بالتكامل ابتداء من بدء صناعته. فالإنسان من حيث شخصيته أضعف الحيوانات.

قارن بين قطة حديثه الولادة وطفل حديث الولادة، ترى أن القطة متقدمة على الإنسان عمليًّا، أي من حيث الإدراك والفهم، ومن حيث تمكنها من العناية بنفسها، ولا يصدق هذا على القطة الصغيرة فحسب، وهي أضعف إدراكًا من باقي الحيوانات، بل إنه أصدق على وليد البقر والحمار منه على وليد الإنسان ﴿.. وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا (النساء/28)﴾ فالطفل عند ولادته يبدأ من الصفر من حيث الشخصية، ثم تأخذ شخصيته بالتخلق شيئًا فشيئًا في أحضان أمه وأبيه وفي محيطه الاجتماعي، ويصل تدريجيًّا إلى مرحلة الرشد والبلوغ الفكري، وإلى مرحلة التمييز والاختيار، ثم يكون هو الذي يختار لنفسه طريقه، وهذا أهم من كل أمر.
 من هنا نصل إلى أحد الفروق الأساس بين الإنسان وغير الإنسان. إذا ما تعرض المولود الذي يولد مصنوعًا كاملًا إلى الأذى، يكون ذلك من الخارج، فالحيوان يتعرض إلى الأذى إذا منع عن الطعام، أو إذا أتته ضربة من الخارج كأن تقطع يده، أو رجله، أو يقتل، فعامل الخسران هنا من الخارج، وهو الذي تسبب في إيصال الضرر إلى الحيوان. إما الإنسان، وفي مرحلة ما قبل التأثر بالعامل الخارجي، وقبل أن تصل إليه آفة من الآفات، تكون خسارته الأولى في كونه لم يكتمل صنعه بعد. إن الإنسان هو المسؤول عن صنع شخصية، أي إنه إنسان بالقوة.

 إن سنة الطبيعة هي التي صنعت من القطة قطة، ومن الكلب كلبًا، أي إنها خلقته بصورة كلب، وكذلك الفأره خلقتها سنة الطبيعة فأرة، وهكذا وردة الشمعدان، وغيرها، إنما الإنسان هو وحده الذي اذا أراد أن يكون مصداقًا لنوعه، فعليه أن يصنع نفسه أنسانًا بنفسه، فإن لم يصنع، فقد مُني بأفدح الضرر، فما الذي يجعل الإنسان أنسانًا؟ بم تكون إنسانية الإنسان؟ بالهيئة؟ إنها مشتركة بين الإنسان والحيوان.
 فالإنسان ليس بالصورة الخارجية، ولذلك تجد الفرق أحيانًا بين إنسان وإنسان ما بين السماء والأرض، خذ النبي وأبا جهل من حيث الهيئة الخارجية للمقارنة، فهل كان للنبي قلبان ولأبي جهل قلب واحد؟ كلا ليس بينهما من حيث الأعضاء فرق بالمرة. إلا أن موسى من حيث إنه موسى، وفرعون من حيث أنه فرعون، يختلفان. أي إن الفرق بين الشخصية الموسوية والشخصية الفرعونية مثل الفرق بين السماء والأرض. خذ أبا ذر ومعاوية وقارن بينهما. كان كلاهما إذا دخلا مجلسًا لم يعرفهما أحد. فهل لو نظر أحد إلى جبين أبي ذر وجد اسمه منقوشًا عليه؟ كلا، بل لعل الناس كانوا يخلطون بينهما، ولا يعرفون من منهما هذا ومن منهما ذاك. ولكن كان أبا ذر كأنه من طينة ومعاوية من طينة أخرى، وهذا اختلاف يتصل بالشخصية، وعليه فإن الإنسان هو المسؤول عن نفسه، عن صيرورته إنسانًا، وعن بقائه إنسانًا.

 والإنسان يصنع نفسه بعمله، يكون إنسانًا بنوع عمله، فثمة أعمال تبعد الإنسان عن الإنسانية، وأخرى تقربه منها، هذه الفكرة يطرحها القرآن قبل أربعة عشر قرنًا طرحًا كاملًا، وقد شرحت ذلك في تفسير سورة المرسلات مفصلًا، ولكن القرآن ينظر إلى إنسانية الإنسان من جانبين: جانب الإيمان وجانب العمل. والإيمان هو نفسه ركن وقاعدة. إن فلسفات هذا العصر لا تثمين الإيمان تثمينًا ذاتيًّا ولا تثمينًا أصيلًا. صحيح إنها تقول بلزوم الفكر الجيد والإيمان الجيد، ولكنها ترجعهما إلى ذهنية الإنسان، وتقول إن قيمة الذهنية تكمن في مقدار حثها الإنسان على العمل، أي إن للتقويم مقدمة. كان هذا هو رأي بعضهم في صدر الإسلام، ومنهم الخوارج.
 لا شك إن رأي القرآن مختلف، فمعرفة الله في القرآن لازمة بقطع النظر عما ينتج منها من عمل (وهي لا ريب منشأ كل عمل) فلو فرضنا إن معرفة الله منفصلة عن أي عمل، فإنها بحد ذاتها نصف الإنسانية، إن لم نقل كلها، الإيمان بالله، الإيمان بالأول، الإيمان بالمعاد، الإيمان بالآخرة، الإيمان بالوسط (الدنيا)، ترى ما دورها في العمل، وما الموضع الذي ينبغي أن نتخذه في هذه الدنيا؟ إن معرفة هذه الأمور في نظر القرآن تتلخص في القرآن بأن الإيمان والعمل لا يمكن الفصل بينهما. ألا ترى كم يرد في  القرآن.

﴿..آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ..(البقرة/25)﴾ إن آيات كهذه تتكرر بحيث إن المرء كلما قرأ ﴿آمَنُواْ﴾ انتظر أن يرى وراءها ﴿وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ ليس صحيحًا القول بأن على الإنسان أن يكون ذا إيمان قوي ثابت، ولا يهم بعد هذا إن كان يعمل أولا يعمل. ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (الحجر/99)﴾ أي ثابر على عبادة الله إلى أن تبلغ مرحلة اليقين في الإيمان، فإذا بلغت هذه المرحلة، يبدأ الشيطان يوسوس لك قائلًا: ما لك وللعمل وما نفعه لك؟ وفي إزاء هذه يوجد أناس (كالخوراج في صدر الإسلام) يعتقدون بضرورة العمل، بصرف النظر عن إيمانهم وعدم إيمانهم. ولهذا يقولون إنه إذا وجد في أي مكان من العالم أناس يعملون مثلما يعمل المسلمون، حتى وإن لم يكونوا يعرفون الله، وحتى لو لم يؤمنوا بالمعاد، فإنهم، بعملهم الصالح، يكونون قد وصلوا إلى ما كان الرسول يدعوهم إليه، ووصلوا إلى سعادة الدنيا والآخرة، ولا فرق بينهم وبين المسلمين، فما الإيمان إلا مقدمة! ولكن الإيمان ليس مقدمة البتة. لا الإيمان مقدمة ولا العمل. بل هما ركنا سعادة الإنسان.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد