قرآنيات

الله جل جلاله.. في حياة الإنسان (1)

 

الشهيد مرتضى مطهري .. 

إنّ القرآن الكريم يقسِّم البشر إلى قسمين: قسم يتحكم الفكر فيهم، وتقوم سائر شؤون حياتهم على أساس إيماني ثابت بحيث أنّ إيمانهم الراسخ والثابت يطغى على جميع شؤون حياتهم الأُخرى. وقد سمَّينا هؤلاء بالمنطقيين والعقليين، وقسم آخر لم يصلوا إلى حد البلوغ المنطقي والعقلي، ولا يستند إيمانهم إلى الاستدلال واليقين، وتنشأ أفكارهم من سلسلة من المبادئ والعلل التي تفتقر إلى الأُسس، ويشكل هؤلاء الأكثرية من بين أفراد البشر، وتكون أفكارهم ألعوبة لسائر شؤون حياتهم. ولذلك فإنّ القرآن الكريم يرفض النظرية القائلة بتبعية الفكر لشؤون الحياة الأُخرى بصورة مطلقة، كما يرفض النظرية القائلة بأصالة وتقدم الفكر على سائر شؤون الحياة بصورة مطلقة.
وقلنا أيضاً أنّ القرآن بيَّن أُسس الأفكار، كما بيَّن التصوُّرات التي تفتقر إلى الأُسس، وبذلك تقدَّم القرآن على جميع مفكري العالم.
إنّ أحد مبادئ التصوُّرات الخاطئة للإنسان "أي التصورات التي تفتقر إلى الأُسس وتتعرض إلى التغيير والتحول" هو استخدامه الظنَّ بدلاً من العلم واليقين! فيما يصر القرآن على اتباع العلم واليقين فقط.

كما يذكر القرآن مصادر أُخرى للأفكار التي تفتقر إلى الأُسس، ويشبهها بالشجرة التي لا جذور لها والتقليد هو من جملة هذه المصادر.
وبديهي أنّ القرآن لا يصف هذا المصدر بالتقليد، وإنما يعبِّر عنه بـ"الطاعة العمياء للأسلاف" وهذا موضوع أكَّد عليه القرآن كثيراً، واعتبره منشأ انحراف وخطأ البشر وانتقده بشدة. يقول القرآن بأنّ هؤلاء يقولون: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (الزخرف/ 22).
ويسمى ذلك بتعبير اليوم اتّباع التقاليد (سواء أكان هذا التعبير صحيحاً أم خطأ أو استطعنا أو لم نستطع إيجاد تعبير له لا شأن لنا في ذلك، لكن على أي حال فإنَّ هذه الكلمة شائعة).
والقرآن الكريم يدين اتباع السنن. وهذا لا يعني أنّه يؤيد الأفكار التي تقف ضد اتِّباع السنن، فهو يرفض هاتين الفكرتين. ولم يرفضهما؟ الجواب: لأنّه يؤيد اتباع العقل والمنطق فقط.
ولماذا يدين البشر الذين يتَّبعون السنن القديمة كما فعل أسلافهم؟ الجواب: لأنّ آباء وأجداد هؤلاء يمكن أن كانوا على خطأ ومفتقرين إلى العقل والشعور. والذين يقولون إنّ أجدادنا كانوا يفعلون كذا وكذا، وعلينا أن نتَّبع سننهم فهم على خطأ. يقول القرآن: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا) (البقرة/ 170).

فإذا كان آباؤهم يفعلون هكذا وهم يرون أنّ هذا العمل ليس صحيحاً ودليل على حماقة أسلافهم، فلماذا يجددون هذه الحماقة؟ إنّهم يرتكبون حماقة حين يسعون إلى إحياء هذه السنن.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ القرآن لا يرفض جميع السنن. على سبيل المثال أنّ قسماً من الناس يميلون نحو التجديد، فهل أنّ الميل نحو التجديد يعتبر صحيحاً؟ كلا أنّ ذلك لا يعتبر صحيحاً، بمعنى أنّ كل شيء جديد لا يدل على النمو والتكامل والتقدم، لأنّ كل قديم كان جديداً في بداية أمره، وكل سُنَّة حمقاء كانت حديثة في يوم ما، فهل أنها كانت صحيحة عندما كانت حديثة حتى تكون سيئة الآن؟ كلا! أنها كانت خاطئة حتى عندما كانت حديثة.
ويحث القرآن على إحياء الحقيقة والعقل والمنطق لدى الإنسان، ثمّ تقييم السنن بمعيار العقل والحقيقة لمعرفة ما إذا كانت حسنة أو سيئة. فإذا كانت صحيحة أمكن اتباعها، وإذا كانت خاطئة فلابدّ من نبذها حتى لو كانت متبعة من قبل الأسلاف. لكن كيف الحال بالنسبة للأمور الحديثة؟
إنّ الأمور الحديثة شأنها شأن القديمة لابدّ وأن تقاس بالعقل والنقد والحقيقة (فكل جديد ليس دليلاً على الحقيقة) إذ من الواجب معرفة صحة أو خطأ الشيء الجديد؟ فإذا كانت ذلك الشيء الجديد صحيحاً، فمن الممكن اتباعه وإلا فلا.

إنّ بعض الناس يبحثون عن أحدث الأشياء الموجودة في أوربا مثلاً...، يبحثون عن أحدث الأحذية والملابس والقبعات الموجودة خلال السنة، فإذا سمعوا بأزياء حديثة سارعوا لشرائها، فهم بعملهم هذا يحكمون على أنفسهم بأنهم يفتقرون إلى الذوق والفكر، ويقولون إنّ أفكارنا وأذواقنا وعقولنا ليست مقاييس، لأنّ ما يبتكره المصممون الفرنسيون (على سبيل المثال) هو الصحيح!
وابتكار الموضة يعتبر من المكائد الشيطانية للعالم الرأسمالي في مجال زيادة الاستهلاك، فالعالم الرأسمالي في مجال زيادة الاستهلاك، فالعالم الرأسمالي يستخدم آلاف المكائد من أجل تقييد الشعوب المستهلكة. وتعتبر الموضة التي يأتي بها المصممون إحدى هذه المكائد، فهؤلاء المستغلون ينفذون برنامجاً استعمارياً لبيع منتجات مصانعهم (سواء أكانت من المنسوجات أم من غير المنسوجات) فإن لم تبع، توقفت مصانعهم. ومن هنا كان لابدّ من استمرار دوران عجلة مصانعهم. وهؤلاء يرون أنفسهم ملزمين على أن ينتجوا من جهة، وتُستهلك منتجاتهم من جهة أخرى ثمّ يقوموا بتهيئة المواد الخام من أجل الإنتاج مرة أخرى.

إنّ عجلة الإنتاج ليست كأرض زراعية يمكن الحفاظ عليها، أنها تشبه قصة الشخص الذي يسخِّر الجن، إذ لابدّ له أن يجعل المسخَّر منشغلاً وإلا مزَّقه الجن. فما دام الجنَّ منشغلاً فهو هادئ، ولو لم يكن هناك عمل فلابدّ من تشغيله كأن يؤمر بنقل تل رملي إلى مكان آخر (وبالطبع فإنّ هذه القصة تعتبر من الأساطير).
والجن في هذه القصة تبدَّل اليوم إلى ماكنة، أي أنّ الماكنة لابدّ لها أن تنتج ويُستهلك إنتاجها. وإذا توقف الاستهلاك لمدة ستة أشهر في النظام الرأسمالي، لانهار صرح هذا النظام على رأس صاحبه. ولذلك يستخدم هؤلاء أنواع المكائد والوسائل ومنها إنتاج أنواع الأحذية والملابس بصورة مستمرة لكي نستهلكها نحن.
إننا إذا ابتعنا في هذه السنة ثوباً فإنّها قد تسد حاجتنا لثلاثة أعوام. لكن هؤلاء المستغلين يصرون على أنّ موضة هذا الثوب أصبحت قديمة ولابدّ من استبدالها حتى وإنْ كانت جيِّدة وقابلة للاستفادة! إنهم يريدوننا أن نكون خدماً نستهلك منتجاتهم. وهذا يعني أن نكدح ونتعب على أن تدخل نقودنا في جيوب هؤلاء الجشعين.

وهذه خدعة ناتجة عن العبادة اللامنطقية للأشياء الجديدة. فحب الإنسان للأشياء الجديدة يجب أن يكون ناتجاً عن أفضلية تلك الأشياء على مثيلاتها السابقة. ولكن يجب أن لا يكون حبه لها لمجرد أنها جديدة. لاحظوا الأقمشة مثلاً، ففي بعض الأحيان تكون الأقمشة المنتجة أقل جودة من سابقتها، فقد نلاحظ أنّ الأقمشة المنتجة خلال الفترة الأخيرة مثلاً أقل جودة من السنين السابقة، فهل يجب أن نقبل الشيء الرديء المنتج لكونه أنتج حديثاً ونترك الشيء الجيِّد المنتج قبل ثلاث سنوات لكونه قديماً؟ كلا هذا ليس صحيحاً.
والتقليد الذي ينبذه القرآن معناه اتباع السنن بصورة غير منطقية ودون الاستناد إلى أي معيار. فالقرآن يؤكد بطلان هذا النوع من التقليد، ويعتبره أحد أسباب انحراف البشر.
إنّ كل الأنبياء حاربوا اتِّباع السنن أو التقاليد الخاطئة... كانوا يرغبون في أن تكون للبشر حرية فكرية، لأنّ الإنسان الذي يتمتع بحرية فكرية لا يجعل من اتِّباع سُنن أسلافه ملاكاً لعمله.
ومن الأمور الأخرى التي يعتبرها القرآن أحد عوامل الانحراف والخطايا والتصورات الخاطئة، هو اتباع الأكابر. وهناك فرق بين اتِّباع الأكابر واتباع القدماء، ذلك أنّ كل شيء تمر عليه فترة يتخذ طابع التقديس، وما أن يصبح سُنّةً حتى يتخذ طابعاً مقدساً، سواء أكان هؤلاء الأفراد أكابراً في نظرنا أو لم يكونوا.

وفي كل مجتمع يبرز أفراد، فمثلاً يبرز البعض منهم في المجال السياسي فيعتبرونهم أبطالاً سياسيين، أو يبرزون في المجال العلمي أو الرياضي، فيما يبرز قسم آخر في المجال الفني. فهؤلاء يعتبرون أبطالاً في مجتمعهم، وتتوجه إليهم الأنظار ويبدأ البعض بتقليدهم. وهذا النوع من التقليد لا يعتبر تقليداً للأسلاف، بل هو تقليد للأكابر. إنّهم يتَّبعون أفكار وكلام الأكابر لأنّهم عظماء لا لكون عملهم أو كلامهم منطقياً. لكن طالب العلوم الدينية عندما يعيش في محيط يتواجد فيه على سبيل المثال روحاني عظيم كالمرحوم البروجردي، وقام الأخير بعملٍ ما وفق ما يقتضيه اجتهاده، فعلى طالب العلم الذي لم يصل إلى مرحلة الاجتهاد أن يتَّبع مثل هذا الشخص. ولكن لنفترض أنّ المرحوم البروجردي كان ينتخب لوناً ما لملابسه أو كان يضع عباءته على كتفه بشكل معيّن. فإنّ تقليد طالب العلم لأُستاذه من هذه الناحية ليس صحيحاً.

ومن الملاحظ أنّ الكثير من الشباب يقلدون حركات بعض الأبطال الرياضيين، كما يقلدون الفنانين جهلاً.
والتقليد في الأمور الصغيرة ليس أمراً خطيراً، ولكن تقليد الكبراء في الأمور المهمة أمر خطير يدينه القرآن: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا...) (البقرة/ 166).

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة