قرآنيات

الله جل جلاله.. في حياة الإنسان (2)


الشهيد مرتضى مطهري ..

وعندما يحين يوم القيامة، يُسأل قسم من أفراد البشر عن سبب انحرافهم عن الصراط السوي، فيجيبون قائلين: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) (الأحزاب/ 67)، لكن هذا العذر غير مقبول عند الباري تعالى، لأنّ هؤلاء لم يحكموا منطقهم وعقولهم في اتّباعهم لأقوال وأفعال الكبراء.

ومن العوامل المهمة في زلل الإنسان، والتي ذكرت في القرآن مسألة اتباع هوى النفس، وهي مسألة مهمة جدّاً، ذلك أنّ الإنسان يتقبَّل الكثير من التصورات تبعاً لهواه لا تبعاً لمنطقه. ومن المستحسن أن نضرب مثلاً يتعلق باتِّباع الهوى في الشؤون السياسية والاجتماعية، فعندما رشَّح كندي نفسه لرئاسة الجمهورية في أميركا، كتبت إحدى الصحف الصادرة آنذاك أنّ أحد الناخبين وزوجته سُئلا عن سبب انتخابهم لكندي، فأجاب الرجل بأنّ سبب انتخابه لكندي يعود إلى إعجابه بجمال زوجة كندي! أما المرأة فأجابت أن سبب انتخابها لكندي يعود إلى إعجابها بهندامه وجماله!
هذا المثال يعتبر أحد الأمثلة التي تتعلق بالشؤون السياسية، ولذلك فقد يحل هوى النفس محل المنطق في عمل ما. وهناك أمثلة كثيرة في اتِّباع الإنسان لهواه، ففي بعض الأحيان تكون هناك أمور تتلاءم مع هوى نفس الإنسان ولا تتلاءم مع منطقه وعقله ودينه، ونتيجة لتلاؤم هذه الأمور مع هواه فإنه يؤطرها بأطر دينية.

إنّ البروجردي الذي كان قد وصل إلى المرجعية بعد وفاة المرحوم الأصفهاني، دعا جميع مسؤولي المواكب الحسينية الموجودة في قم في اليوم السادس أو السابع من شهر محرم للحضور في منزله فسأله عن المرجع الذي يقلدونه فأجابوا بأنهم يقلدونه (البروجردي) فقال لهم: في رأيي أنّ الكثير من الأعمال التي تقومون بها في مواكب العزاء ليست صحيحة، فأطرق الجميع رؤوسهم (انّهم كانوا في الواقع يريدون أن يكون يوم عاشوراء يوم استعراض وتسلية ويوم عرض للفنون) وبعد هنيهة قال أحدهم للبروجردي: يا سيددنا إننا نقلدك في 353 يوماً من أيام السنة القمرية التي تتكون من 354 يوماً، ولا نقلدك في يوم واحد!! (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ...) (النجم/ 23).

وعندما يتَّبع الإنسان هواه، فإنّ عمله يصبح متناقضاً مع منطقه وحتى مع الشريعة ومع فتوى مرجع التقليد. بالإضافة إلى ذلك فإنّ اتباع الإنسان لهواه يوقعه لا محالة في آلاف الأخطاء التي قد تؤدي إلى إحداث ثورة فكرية. فعندما يذهب الطفل إلى المدرسة ويتعلم بعض الشيء، يبدأ بالاستهزاء في أفكار الوالدين وتصوراتهم إدراج الرياح، فينقلب المجتمع، فلا يأبه أفراده بالأفكار القديمة.
ولكن كيف تتغير مثل هذه الأفكار بتغير الأنظمة الاجتماعية؟ والجواب على ذلك هو أنّ هذه الأفكار ليست منطقية، ولابدّ أن تتغير. فلقد كانت خاطئة منذ ظهورها، كما أنّ اندثارها بعد ذلك يجري هو الآخر بشكل غير منطقي.

كما أنّ القرآن قسَّم الأفكار إلى متينة يمكن الاستناد إليها في جميع شؤون الحياة، وأخرى تفتقر إلى جذور ويذمها القرآن الكريم.
كما يضرب القرآن مثلاً آخر رغم أنّه لم يذكر ذلك على شكل مثال، إلا أنّ سياق الآية تدلُّ على ذلك، فقد جاء في سورة التوبة: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ...) (التوبة/ 109).
في هذه الآية يذكر القرآن صنفين من البشر: صنف ترتكز أعمالهم على تقوى الله ورضاه (إنّ تعبير البنيان الشائع في هذه الأيام مأخوذ من القرآن).
إنّ إعجاز القرآن لعجيب... فلقد نزل قبل 1400 سنة، وكان يتحدث بشكل يتضح من خلاله أنّه يعرف أي الأقوال ستطرح في المستقبل، ولذلك فإنّه يتكلم بمنطق هؤلاء البشر، إذ يقول لهم: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ...) (.. أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ...).

نحن نلاحظ أنّ المياه أثناء الفيضانات ترتطم بجدران الأنهار بشدة بحيث تعمل على تآكل تلك الجدران، فينشأ في بعض الأحيان جدار بطول خمسة أو ستة أمتار وقد يكون أطول من ذلك، إلا أنّ القسم الأسفل من ذلك الجدار يصبح هشاً، غير أنّ الناظر يشاهد جداراً عظيماً، وإذا ما تحرَّك شخص أو شخصين أو ثلاثة أشخاص من فوقه، فلا يحدث شيئاً، ولكن إذا ما وضع فوقه حمل ثقيل أو مرّت عليه شاحنة فمن الممكن أن ينهار. ولنتصور حالة البناء الذي يبنى فوق ذلك الدار. إنّ مثل هذا البناء سينهار بأدنى هزة يتعرض لها، وما أعظم الخسائر التي تقع جراء انهياره. ويشبِّه القرآن بعض أفراد البشر بالجدار المذكور، فهم يقيمون حياتهم على أساس هش بحيث أنّهم يسقطون بسقوط الجدار.

يقال إنّ شخصاً كان ينكر يوم القيامة والسؤال في القبر، حتى جاء أجله. وبعد موته رآه شخص في المنام، فسأله قائلاً: أنك كنت تنكر السؤال في القبر بعد الموت، والآن وقد متَّ، فقل لي هل سُئلت في القبر؟ فأجاب الميّت: كلا لقد ذهبت إلى جهنم مباشرة.

إنّ الآيتين الآنفتين تذكران مرتكزين لشخصية الإنسان:
المرتكز الأول:
الأفكار والتصورات المنطقية ذات الدلالات والبراهين.
المرتكز الثاني:
الإرادة الإنسانية والأخلاقية. وليس المقصود هنا ميول الإنسان وشوقه وشهوته المتواجدة حتى في الحيوانات. فالإنسان يختلف عن الحيوان من حيث الشخصية، إذ له تصورات وإرادة. ولكن متى تترسخ هذه الإرادة؟
الجواب: عندما تلتحم مع التقوى الإلهي. والتقوى حسب المفهوم القرآني تعني السيطرة على النفس. فلو توجَّه الإنسان نحو الله لترسخت تقواه.


فكر الإنسان وتصوره يشكلان نصف شخصيته:
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) (إبراهيم/ 24).
إنّ الإيمان بالله يعتبر نقطة أساسية في مرحلة التصور عند الإنسان، كما تشكل الإرادة الإنسانية النصف الآخر من شخصيته. وهذه الإرادة لا تتخذ طابعها الحقيقي إلا بعد اتصافها بتقوى الله وطلب رضاه: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ...).

إذن ما المقصود من الله في حياة الإنسان؟
الجواب: إنّ الله يشكِّل حسب وجهة النظر القرآنية ركني الشخصية الإنسانية، وإذا ما تشكَّل هذان الركنان أو المرتكزان فإنّ جميع شؤون الحياة ستقوم على أساسها، كما أنّ القرآن يجعل هذين المرتكزين يستندان إلى مرتكز آخر هو الإيمان بالله فقط.
والقرآن يرى أنّ جميع شؤون الإنسان قائمة على أساس هذين المرتكزين، وهو لا يريد بذلك أن يقول أنّ كلَّ أفراد البشر هم كذلك. إنّه يريد أن يصنع من الإنسان موجوداً سامياً وكاملاً. ويقصد بالإنسان الكامل، الإنسان الذي يرتكز على أساس إلهي، وتتشكل شخصيته من ركنين هما: التصور والإرادة اللذان يستند إليهما في كل شؤون حياته.
والقرآن أيضاً يريد إنساناً يتصف بهذه الصفات وهذا ما نعنيه في عبارة الله في حياة الإنسان. إنّه لا يريد أن يقول إنّ كلَّ أفراد البشر بنفس الصفات.
وعندما يريد البعض أن يبدي وجهة نظره حول الإنسان، فإنّه – عادةً – يأخذ الإنسان الموجودة بنظر الاعتبار، أي الإنسان الذي لا يتباين مع الحيوان، ولا يرى الإنسان الذي تصدق كلمة الإنسانية حوله.
والقرآن لا ينظر إلى الإنسان على أنّه حيوان يمتلك غرائز حيوانية، بل ينظر إليه كإنسان له استعدادات إنسانية... يريده إنساناً متكاملاً.

وخلاصة القول انّ رسالة الإسلام جاءت لبناء مثل هذا الإنسان.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة