قرآنيات

الزلزلة (1)

 

السيد موسى الصدر


سم الله الرحمن الرحيم 
﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها * وقال الإنسان ما لها * يومئذٍ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها * يومئذٍ يصدر الناس أشتاتًا ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرا يره﴾ [الزلزلة] 
صدق الله العظيم 
هذه السورة المباركة أيضًا مثل السور الثلاثة السابقة التي تحاول دعوة الإنسان إلى الانتباه لما بعد هذه الحياة المادية التي نعيشها على الأرض، أيضًا السورة في نفس الموضوع. 
قرأنا ﴿ألهاكم التكاثر﴾ [التكاثر، 1]، ونذكر في ذيل السورة ﴿كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين* ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم﴾ [التكاثر، 5-8]، وسورة القارعة ﴿القارعة * ما القارعة﴾ [القارعة، 1-2]، وفي ذيلها ﴿يوم يكون الناس كالفراش المبثوث * وتكون الجبال كالعهن المنفوش * فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشةٍ راضيةٍ * وأما من خفت موازينه * فأمه هاويةٌ * وما أدراك ما هيه * نارٌ حاميةٌ﴾ [القارعة، 4-11]. والسورة الثالثة ﴿والعاديات ضبحًا * فالموريات قدحًا﴾ [العاديات، 1-2]، وكان في آخر السورة ﴿أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحُصِّل ما في الصدور * أن ربهم بهم يومئذٍ لخبيرٌ﴾ [العاديات، 9-11]. 

هذه السور الثلاثة كلها مثل هذه السورة ﴿إذا زلزلت الأرض﴾ حول تنبيه الإنسان ودعوة الإنسان إلى ما بعد هذه الحياة والمحاسبة التي تقع بعد وفاة الإنسان. وحتى يتمكن الإسلام أو القرآن الكريم أن يلفت النظر ويوجه الإنسان الغافل الغريق في حياته المادية والملتهي بالصور العادية في الحياة. كان الإنسان في هذه الحياة، خاصة في حال نزول هذه السور، كان الإنسان ملتهيًا بمادته، بحياته العادية، بالتكاثر وتعداد النفر والنفوس. وهذه السور التي قرأناها... الإنسان الغريق أو النائم في حياته المادية الملتهي بهذه الحياة، السكران من الانتصارات المادية والتكاثر بحاجة إلى هزة عنيفة حتى ينتبه ويفيق على حاله، وحينئذٍ يتوجه إلى تفسير القيامة. 
ولهذا في كل هذه السور استعملت أساليب متعددة لهز الإنسان ومحاولة إيقاظه حتى ينتبه إلى المعاد. أحيانًا في صيغة ﴿ألهاكم التكاثر﴾ [التكاثر، 1]، وأحيانًا بصيغة ﴿القارعة ما القارعة﴾ [القارعة، 1-2]، وأحيانًا بتصوير صورة الغارة الغريبة ﴿والعاديات ضبحًا﴾ [العاديات، 1]، بهذا الشكل محاولة إيجاد اليقظة في الإنسان، حتى بعد أن استيقظ يعرضون له أنه أينك أنت أمامك القيامة، أمامك المحاسبة. أسلوب هذه السورة أسلوب آخر، هذا الأسلوب يبدأ بتصوير البعث والنشور والقيامة: ﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾. 
أنت تتصور أن الزلزلة إذا كانت محلية ما هو شعور الإنسان؟ لا أعرف إذا الشباب صادف معهم زلزال للأرض حتى يشعروا بعجز الإنسان وقت الزلزال، ولا أضعف وأعجز من الإنسان في حالة الزلزال. 

هناك شبه لهذا الزلزال حال تدهور السيارة. السيارة التي تتدهور، الإنسان الجالس داخل السيارة يجد نفسه غير ملتجئ إلى أي مكان، إلى أين؟ تريد توقف السيارة؟ تريد تأخذ بيدك الحائط؟ تريد تستند إلى عصا؟ إلى أين؟ الإنسان يشعر أنه غير معلق، معلق بين السماء والأرض بشكل غريب، وهذا شبيه بحالة الزلزال. الزلزال يجعل الإنسان يشعر باحتقار وحيرة وتخوف غريب، باعتبار أن الإنسان كل سنده أنه مستند إلى الأرض، أليس كذلك؟ يعني الآن نحن مثلًا إذا نقف على الحائط أو نجلس على الأرض نحن نمسك أرضنا حتى نستقر، عندما الأرض تتحرك ماذا يعمل الإنسان؟ يشعر باحتقار، بضعف، بعجز، خاصةً إذا كانت الزلزلة زلزلة عامة، لأن الزلازل التي نحن رأيناها زلازل محلية، تعرف هذه الزلازل التي تفتك بالعالم بثوانٍ، خمس ثوانٍ، عشرين ثانية، خمس عشرة ثانية، هذه كلها الزلازل التي تحصل. والزلازل العادية زلازل جانبية، يعني تأتي عامودية أو أفقية بخط واحد ومع ذلك نحن نشعر بهذه الحقارة فكيف ﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾، ماذا يعني زلزالها؟ 
نحن نستعمل ونقول فلان ضرب ضربته، فلان ألقى كلمته، فلان استعمل سلاحه، هذا يعني سلاحه المفضل، كلمته المفضلة. فلان ضرب ضربته، يعني هذه الضربة النهائية، يعني التي تلخص كل قواه استعملها في هذا، فلان ضرب ضربته، أليس كذلك؟ 
﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾ يعني تلك الزلزلة التي كل الزلازل تهون دونها إذا زلزلت. فإذا نحن الآن عندما نسمع هذه الآية ﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾ نتوجه بأن الأرض تتحرك وتتزلزل زلزالًا عنيفًا، الزلزال الذي يفوق زلزال أغادير، وزلزال قوم عاد، وزلزال لبنان سنة 56، زلزلة تفوق كل هذه الزلازل.

﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾ طيب وقت الأرض تتحرك إلى أين تلتجئ؟ تتمسك بماذا؟ بالحائط. الحائط مبني على الأرض، وقت الأرض تزلزلت الحائط تزلزل، تمسك الشجرة، الشجرة أيضًا تتزلزل لأن الأرض تتحرك إلى أين تصل؟ تطلع للخارج، الزلزلة معك، الداخل معك، البحر، رأيتم أن مياه البحر تتدفق ويصير خسف ويصير كثير من المسائل. فإذًا، ﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها﴾ هذا ترسيم حالة مخيفة يعجز الإنسان وينقطع الإنسان انقطاعًا نهائيًا ولا فوق هذا الانقطاع انقطاع أبدًا. 
وبعدها ﴿وأخرجت الأرض أثقالها﴾، الأرض تخرج ما في جوفها من الأموات، من الكنوز، من الذخائر، من الدفائن، من ركائز البناء، من جذور الأشجار هذا كله أثقالها، أثقال جمع ثقل يعني كل شيء مثقل بالأرض له وزنه وله أساسه كله يخرج. 
فإذًا، نحن الآن ننتبه لمنظر آخر، يعني هذه الأرض تتزلزل، والأرض تقذف ما فيها من الأسرار، من الأموات، من جذور الأشجار، من أعمدة البناء، من ركائز الحيطان كل هذا يخرج؛ من جذور الجبال وأنتم تعرفون أن الجبال لها جذور تحت الأرض كلها تقذفها الأرض. ﴿وأخرجت الأرض أثقالها﴾ أسرار ثقيلة على القلب، يعني الإنسان إذا كان عنده سر مكتوم يشعر بثقل هذا السر، وإذا قاله لأحد يشعر بأنه خفَّ عنه، أليس كذلك؟ السر ثقيل على الإنسان، هذا تعبير كناية جميل كأن ما في جوف الأرض سر الأرض وثقيل على الأرض فقذفته وارتاحت، كأن هذا الزلزال وهذا التحرك وهذا المنظر الغريب حتى تعبر عن أسرارها وتلقي ما في نفسها. 

فإذًا، نحن الآن نتصور الزلزلة، وخروج هذه الجذور والأثقال والأموات، فيطلع منظرًا مفزعًا ومرعبًا جدًا. 
فالإنسان النائم، الإنسان الملتهي، الإنسان الغافل يهتز أمام هذا الأمر. ثم يؤكد العجب والفزع بهذه الكلمة ﴿وقال الإنسان ما لها﴾. الإنسان، جنس الإنسان طبيعة الإنسان يلفظ من دون إرادة ما لها؟ ماذا صار؟ يعني حالة تعجب ودهشة أمام هذا المنظر. ﴿يومئذٍ تحدث أخبارها﴾ حينئذٍ عندما هذا المنظر يهز الإنسان ويتساءل ما لها، والنائم يفيق والسكران ينتبه والغافل يتوجه، بعد هذه اللوحة فورًا يضع القرآن أمام الإنسان هذه الأشياء: ﴿يومئذٍ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها﴾. الأرض في هذه الحالة تتحدث وتحكي، تحكي أخبارها، تحكي أنه هنا صارت جريمة، هنا صارت العبادة، هنا صار الخلاف، هنا فلان سرق، هنا فلان قتل، هنا فلان تآمر. كل ما يجري على الأرض، الأرض تقوم تتحدث. غريب هذا... هل الأرض تتحدث؟ نعم، حينما قلنا حسب توصيف القرآن: ﴿وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيءٍ﴾ [فصلت، 21]، وهنا نفس العجب هل الأرض تتحدث؟ ﴿يومئذٍ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها﴾ الله قال لها. الله أنطقها. الله قال للأرض احكي اشهدي. فإذًا، لا غرابة في ذلك. ونحن اليوم بعد التقدم العلمي، قلَّ استغرابنا جدًا عن هذه الشهادة وعن هذه الأخبار والحديث. نحن الآن بكل سهولة نقدر أن نفهم ماذا يعني الأرض تحدث أخبارها وتشهد علينا، والأرض تشهد، واليد تشهد، والرجل تشهد، والسمع يشهد، والبصر يشهد، والجلد يشهد، نقدر نفهم بسهولة. 

أرجو الانتباه لهذه المقدمة الصغيرة، أنتم تعرفون أن الإنسان حينما يتكلم ما هو السبب في سماعك أنت صوتي؟ قرأتم في الكتب أنتم والحمد لله بأن الصوت عبارة عن قرع في أجهزة الفم، يحدث موجًا، يحدث أمواجًا صوتية، مثلما تحط صخرة في الماء، كيف هذه الصخرة تخلق موجة؟ نفس الشيء عندما أنت تحكي، هذا الحكي يحدث موجة في الجو، هذا الشيء مقرر في الفيزياء. وهذه الموجة قائمة موجودة، وهذه الموجة تسير في كل ثانية ثلاثمئة وأربعين مترًا. يعني شيء ملموس ومشهود ولا شك فيه، يعني أنا الآن أحكي، بعد ثانية صوتي يصل لثلاثمائة وأربعين مترًا بعيدًا عني، وهذه الموجة تمشي بدونها داخل الهواء. فإذًا، كما أن الحجارة في الماء تحدث موجة على سطح الماء، الصوت في الجو يحدث موجة في الجو؛ هذه الأمواج تنبثق وتتوسع فتصل إلى مطرقة سمعك وإلى صماخ سمعك، هذه الموجة تحرك هذا الجلد، هذا الستار، هذا الصماخ، فتسمع صوتي. وهذه الموجة تصل لمسامع الحاضرين فيسمعون، وهذه الموجة تصل لهذين الجهازين الموجودين عندي، فتتحول إلى أمواج كهربائية بالأجهزة الموجودة فتتسجل على هذين الشريطين الموجودين أمامي، واللذين يسجلان كل ما أقول، أليس كذلك؟ 
ونفس الصوت عندما أنا أحكي بالتلفون في محل الفم، هناك ورقة منسوجة بشكل خفيف، هذه الورقة تهتز بقرعات الصوت فتنزل وتطلع وتعكس على الجهاز الذي يحكي بواسطة الكهرباء صوتًا ينتقل بواسطة الشريط إلى مسامع الشخص الآخر فيسمع صوتي، أليس كذلك؟ والآن عندهم وسائل بأن يحولوا الموج، موج الصوت إلى نور والعكس، يعني العلم اليوم يتصرف بهذه الموجات كشيء عادي، كمادة، يعني، لا شك في ثبوت هذا الشيء.

أنا وقت أتكلم، هذه الأمواج الصوتية التي تسمعها أنت ويسجلها المسجل، وينتقل إلى التلفون، ويتحول إلى نور، هذه الموجة موجة الصوت ألا تصل إلى هذا الحائط؟ ألا تصل إلى هذه الأرض؟ أنت تقدر أن تقول لا تتسجل على الحائط، كيف عرفت أنه لا تتسجل على الحائط. حتمًا ينعكس على الحائط لأنه شيء موجود، لا تقل أن هذا الحائط خشن. فليكن خشن الصوت والموج الصوتي ما بحاجة إلى الخشونة والخفة، من الممكن أن يتسجل على الحائط. ثم هذه الأمواج الصوتية التي تروح إلى أين تروح؟ تنعدم؟ أبدًا. قانون "لافوازييه" يقول لا ينعدم شيء في الوجود ولا يوجد شيء في الوجود. كل شيء ثابت ثابت باقٍ، هذه الأمواج الصوتية موجودة في الجو، فإذًا، أنا الآن بإمكاني أن أقول أن كل الأحاديث التي صدرت مني خلال هذه الفترة بشكل أمواج موجودة في الفضاء وبشكل أمواج انعكست على هذه الحيطان وعلى هذه الأرض، لماذا تتعجب؟ كيف تتسجل هذه الأمواج على هذا الشريط وتتسجل على الأسطوانات ولا تتسجل على الحائط؟ من قال لك لا تتسجل؟ هذه الأصوات تتسجل على سمعك ولا تتسجل على وجهي أنا ووجهك أنت وجلدي أنا وجلدك أنت، تتسجل، لم لا، هذا في الصوت. 
أما النور أنتم تعرفون أنه لماذا تروني أنتم، هل تعرفون سبب الرؤية؟ سبب الرؤية، أنا لو كنت الآن في ظلام دامس لا أحد يراني لكن أنا موجود في جو من النور، يعني هذه الأضواء أو الشمس تشرق علي، يعني تصب علي النور وعليكم أيضًا. هذا النور الذي عليَّ فينعكس مثل المرآة، كل لون كما تعلمون يأخذ شيئًا من الألوان، ويعطي بعض الألوان، فيصير انعكاسًا، النور يأتي من هناك ثم ينعكس، فينتشر في الفضاء، فيصل إلى عينك، فتراني، ويصل إلى حائط فيبقى هناك، ويصل إلى كل مكان. 
فإذًا، كما أن الأمواج الصوتية تصدر من فمي وتنتشر في الجو، فالأمواج النورية أيضًا تنتشر في الجو وتصل إلى عينك وتصل إلى كاميرا للتصوير، جهاز التصوير. ماذا يحدث بجهاز التصوير؟ النور الصادر المنعكس عني يدخل إلى العدسة فتنعكس على الفيلم الذي عليه دواء للصباغ، فتنعكس صورتي على هذا الفيلم وتظهر، أليس كذلك؟ 

وهكذا نجد أن الوجود والمنظر أيضًا ينعكس على المجموعة ويتسجل في الأفلام وفي العيون وفي الأوراق، فلماذا لا يتسجل على الحيطان وعلى السقف وعلى المناخ وعلى الأرض وعلى كل شيء؟ 
إذًا، ما دام أننا نرى أمامنا التصوير والصباغ في الصورة على التصوير، ونرى أمامنا مسجلات فإذا قالوا لنا أن الشيخ "إسحاق" الآن كل حركة تصدر منه تنعكس على هذه الحيطان، وهذه الأرض، وهذا السقف، وهذه الأجساد، وعلى جسدي، وعلى جسده هو نحن نقدر نصدق هذا. فإذًا، الله سبحانه وتعالى الذي أنطقنا والذي أنطق المسجلة عن طريق ذوق الإنسان، والذي تمكن من إنطاق كل شيء بإمكانه أن ينطق جلدي ويدي وعظمي والأرض والحائط والشجر وكل شيء. ﴿يومئذٍ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها﴾ من الذي يتمكن أن ينكر؟ 
كل هذه الصور والأصوات والحركات تتسجل في كتاب الله، ماذا يعني كتاب الله؟ يعني في كتاب مؤلف هناك؟ لا، الأرض والسماء كتاب الله، ما بين الأرض والسماء، جنود الله وملائكة الله، كل شيء، كل شيء. الفعل والصوت والعمل كما أنه ينعكس على النفس. وهذا باب آخر نحكي فيه إن شاء الله في باب المعاد. 

كذلك يتسجل كل عمل وكل فعل. والله سبحانه وتعالى ينطقها يوم القيامة، ولهذا في الحديث أنكم إذا صليتم فصلوا في أماكن متعددة، واجعلوا طريقكم إلى الجامع ذهابًا غير طريقكم إيابًا حتى تشهد لكم الأرض كلها بالصلاح وبالخير والتقوى وإن ذهبت من طريق واحد الأرض أيضًا تشهد لك بالذهاب والإياب، لكن تعبيرات لإفهام الناس والإيحاء للناس يا أخي لا تفكر أنه لا أحد ينتبه إلى جريمتك، يدك تشهد، الأرض التي تقع عليها الجريمة تشهد، أين تُخَبئ؟ وعلى من تُخَبئ؟ ﴿يومئذٍ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها﴾.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد