قرآنيات

الزلزلة (2)


السيد موسى الصدر

ثم يعود إلى نفس التصوير فيقول: ﴿يومئذ يصدر الناس أشتاتا﴾، أشتات جمع الشتيتة، يعني متفرقة، صدور الناس ليس بالمظاهرات ولا بالصفوف ولا بالتجمعات المنظمة بل متفرقة من الهول والفزع ثم من التفرق الحقيقي، لأن هذه الأجساد التي تدفن تحت الأرض لا تبقى بالشكل الموجود، فالجسد يتفرق ويتحول أول شيء إلى تراب، وهذا التراب بعد مدة الأحداث الأرضية والخسف والزلازل والحركات، تفرق هذا التراب، فقسم من هذا التراب يروح مع الريح إلى البحر الفلاني، وقسم منها ينتقل إلى الأرض الفلانية، ثم تزرع فيها البذرة فتتحول إلى الشجرة وإلى العلف وإلى أشياء كثيرة، وربما يوم القيامة إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يخلقني من جديد وأن يعيد إليَّ الجسد من جديد يجب أن يجمع من مختلف أقطار الأرض تتمة من ترابي ويخلقني ويكونني من جديد، كما نحن اليوم، نفس الشيء، فنحن مكوَّنون من عناصر مختلفة. فإذًا، يوم الحشر بالفعل منظر غريب، تصوروا أنه قطعة من الحائط، قطعة من هنا، وقطعة الشجرة، وقطعة من الأرض، وقطعة من هناك، تتجمع وتأتي ويتكون إنسان، شيء غريب سيكون. 

يحضر الناس أشتاتًا متفرقين وهائمين وفزعين يقولون: ﴿ما لها﴾؟ لماذا يصدر الإنسان؟ ﴿ليروا أعمالهم﴾ حتى الله سبحانه وتعالى "يري" أعمالهم، طبعًا تعرفون أن الفعل المبني للمجهول يستعمل إذا كان الاهتمام بالفعل دون الفاعل، ﴿ليروا أعمالهم﴾ حتى يريهم، ومن هم الذين يريهم، ليس مهمًا، المهم أنهم هم يرون. ﴿ليروا أعمالهم﴾، ليس في الميدان شيء غير العمل، ﴿ليروا أعمالهم﴾ الناس يصدرون حتى يروا أعمالهم. 
﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره﴾ يره، ما معنى يره؟ يرى العمل، مثقال ذرة، ذرة ماذا تعني؟ ذرة معناها كما يقولون الهباء المتطاير في الهواء، ذرة التي نراها في خيط من النور، هذه ذرة. والحقيقة أن ذرة تستعمل في هذا لأن العرب الذين وضعوا اللغة العربية ما كانوا يتصورون أصغر من هذا، الذرة متكون من الذر، والذر يعني صغير النملة لأنه كان أصغر الحيوانات عندهم صغار النمل، فالذرة يعني أصغر شيء. لكن الإنسان القديم ما كان يفهم أصغر من الهباء المتطاير في السماء، اليوم نحن نطلق على ATOME ذرة لأنهم في السابق ما كانوا يعرفون ATOME (الذرة) لماذا ما كانوا يعرفون؟ لأن الذرة إسم لكل صغير، لأصغر الأشياء، فنحن سابقًا كنا نقول ﴿فمن يعمل مثقال ذرةٍ﴾، مثقال يعني مصدر ميمي من الثقل، مثقال ذرة يعني وزن هذه الذرة كم نيترون باصطلاحنا مهما كانت، لكن اليوم نقدر نزن أصغر من هذا، ذرة، الذرة الموجودة في الجسم، هذا الذي لا يراه الإنسان لا بالعين المجردة ولا بجميع الوسائل التي خلقها إلى الآن الإنسان واخترعها لا يقدر يشوف الذرة التي تدور يعني ATOME أليس كذلك؟ هذه ذرة أيضًا. 

﴿فمن يعمل مثقال ذرةٍ﴾، يعني إذا كان عمل الإنسان من الخير أو من الشر بمقدار وزن هذه الذرة يره، ﴿ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره﴾. فإذًا، الحساب ليس للأشياء الكثيرة الكبيرة بل الأشياء الصغيرة الحقيرة ولو كان بمقدار ذرة ووزن ذرة، يراها. فلا تحتقروا الطاعات ولا تستقلوا الصدقات، ولا تستصغروا الذنوب والمعاصي، فإن ﴿من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره  ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره﴾. هذا مضمون عدة روايات أنه لا تستصغروا الطاعات ولا تستصغروا الخدمات والصدقات، لا تستصغروا المعاصي والذنوب، فكل شيء مهما كان صغيرًا أو كبيرًا له أثر في حياتكم، وفي معادكم، وفي حسابكم، وفي معاشكم مطلق. فإذًا، هذا التصوير يعطينا تفاعلًا وانعكاسًا وملاقاتنا للعمل يوم القيامة. 
هنا ألفت نظركم لشيء، وهو أن ظاهر هذه السورة، بل صريح هذه السورة أننا نرى أعمالنا يوم القيامة، أرجو الانتباه هذا بحث علمي وفلسفي وعقيدة قرآنية حول المعاد. ﴿يومئذٍ يصدر الناس أشتاتًا ليروا أعمالهم﴾، ليس جزاء عملهم، ﴿ليروا أعمالهم﴾، يعني سوف ترى نفس عملك، ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره﴾ نفس الذرة تراها، أليس كذلك؟ وهذا أيضًا ما ورد في الآية الأخرى: ﴿يوم تجد كل نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضرًا﴾ [آل عمران، 30]، ليس جزاء ما عملت من خير محضرًا. لماذا هذا؟ مع أنه في بعض الآيات أننا نرى جزاء عملنا. لماذا القرآن قد يقول نحن نرى عملنا وقد يقول نحن نرى جزاء عملنا؟ لأن الجزاء الإلهي يختلف عن الجزاء الإنساني، الإنسان حينما يضع قوانين المجازاة، الإنسان يجعل الجزاء الإنساني، يقولون السارق يغرم أو يسجن، السرقة عمل ما يختلف عن السجن، السجن حجز حرية الإنسان المواطن في مكان محدود في مدة معينة، أليس هذا هو السجن؟ السرقة تختلف عن هذا، هذا شيء وهذا شيء.

الإنسان وضع قوانين ووضع مجازاة أمام أعمال بأشياء أخرى، مفهوم الكلام؟ اليوم مثلًا إذا واحد ارتكب جريمة، مثلًا جريمة ضرب أو إهانة أو إطلاق نار يغرم بالمال، المال شيء وإطلاق النار شيء، أو يسجن، السجن شيء، وإطلاق النار شيء. وهكذا ترون أن عمل الجريمة يختلف عن عمل المجازاة، هذا شيء وذاك شكل آخر. بينما العمل الإنساني والجزاء الإلهي شيء واحد نحن نجزى بعملنا بنفس عملنا، يعني عملنا في هذه الدنيا له صورة هي نفس العمل له صورة يوم القيامة نجتزي بنفس الشيء. من باب المثل الماء في درجة حرارة معينة أكثر من أربع درجات مثلًا أو فوق الصفر مثلًا، الماء مائع، أليس كذلك؟ إذا نفس الماء أعطيته حرارة حتى بلغت درجة الحرارة إلى مئة، نفس الماء شكله يختلف، ويصير مثل البخار أليس كذلك؟ وإذا نزلت درجة الحرارة تحت الصفر، فنفس الماء يكون شكله جماد، الماء واحد له ثلاثة أشكال في درجات حرارة مختلفة أليس كذلك؟ 
العمل الواحد، هذا العمل الخير أو عمل الشر هنا له شكل، وفي عالم آخر له شكل آخر، نفس العمل. أذكر لكم مثالًا أقرب إلى الذهن: الفلاح في خلال موسم الزراعة والعمل، يحرث الأرض، ويسقي الحرث، يكافح المرض، يخدم الشجرة، تطلع الثمرة المطلوبة أليس كذلك؟ إذا لم يكافح مرض البرتقالة أو التفاحة، أو الشجرة التي تأتي معيوبة مسوسة باصطلاحنا أليس كذلك؟ هذا السوس من أين أتى؟ لأنه كان موجودًا، كان من المفروض أن يكافح لأنه ما كوفح، ظهر هنا. فإذًا، هذا الرش الذي يرشه الفلاح ينعكس على سلامة هذه الشجرة؛ إذا ما حرث الأرض أو ما أعطاها السماد اللازم، الثمرة تطلع هزيلة، هذا الهزال من أين جاء؟ من نفس العمل، ليل نهار كبر هذا، فكل نشاط وضعه على الأرض، هذه الشجرة نمت درجة أليس كذلك؟ نفس الشيء. فإذًا، العمل عمل الفلاح يتجمع في صندوق الشجرة، وصندوق الثمرة، أليس كذلك؟ 

مثل واحد، طفل يدخر المال وقت تصير مئة ليرة لا تقدر أن تقول له من أين لك هذا، هو جمعه. الثمرة مثل صندوق العمل، كل نشاط، كل كيماوي، كل رش، كل خدمة كأنه وضع شيئًا بالصندوق، فامتلأ الصندوق، مثال واضح، أليس كذلك؟ هذا الجزاء بالعمل، التلميذ بالامتحان نفس الشيء، المصارع في المسابقة، نفس الشيء هؤلاء يجدون أنفسهم أمام عملهم المصمد في هذا الصندوق. فإذا صمدوا عملًا جيدًا يجدون نفس العمل نفس الأموال التي وضعوها وليس شيئًا آخر. نحن مع الأسف يوم القيامة أمام أعمالنا، فالأعمال التي عملناها نحترق بها يوم القيامة أو نجزى بها يوم القيامة، تقول لي كيف؟ أقول لك أن الإنسان يكون ذاته بأعماله هذا بحث فلسفي أحاول أن أعطيه الشكل البسيط. 
باعتبار أنه نحن نقرأ التربية، نقرأ التفسير لا نقرأ فلسفة ولا كلام. الإنسان والأعمال التي تصدر عن الإنسان هي التي تكون ذاتي، أنا طفل، عندما أتيت كنت كطفل كنت مثل المرآة، كنت مثل المادة الخام، كنت مثل المعجونة التي يستعملها الطلاب الصغار في المدارس، أنا وقت كنت طفلًا كنت مثل هذه المعجونة، التربية، ثم عملي أنا وهذا العمل، كل كلمة تغير، هذه المعجونة كل موقف، كل تصرف، كل خطيئة، كل حسنة، تكوَّن هذه المعجونة وتعطيها صورة. فإذًا، أنا صورتي يوم القيامة، ذاتي يوم القيامة ما هي؟ صندوق أعمالي فقد أحشر لا سمح الله يوم القيامة بشكل كلب إذا كانت أعمالي أعمال كلب، وقد أحشر بشكل إنسان، وقد أحشر بشكل آخر، من يدري ما هي صورة الإنسان يوم القيامة! 
مثال آخر، الفنان يرسم لوحة، صورة. هذه اللوحة هذه اللوحة هي مجموعة الأقلام التي هو يستعملها ويلون هذه اللوحة أليس كذلك؟ فكل قلم يمد على هذه اللوحة يعطي حالة جديدة لهذه الصورة. فهذه الصورة الفنية التي أمامكم هي مجموعة حركات يد هذا الفنان والألوان التي اختارها، أليس كذلك؟ ونحن نفس الشيء. 

فإذًا، نحن ذاتنا هي مجموعة أعمالنا، لوحة ذاتنا مجموعة الخطوط التي رسمناها في أيام الحياة. فإذًا، كل أعمالنا لا تروح هباءً، كما أنها تنعكس على الأرض والسماء والحيطان والجلود أيضًا تكون ذاتنا، فذاتنا خلاصة أعمالنا، وحينئذٍ نحن نحشر بهذه الذات التي هي العذاب الأبدي ولا مقام إلا في النار ومع الشياطين، أو نحشر وصورتنا إنسان، فمقامنا الجنة ونحشر مع الصديقين والشهداء والصالحين.

أنت اليوم إذا تريد أن تعمل عدالة في بيتك تضع الضوء فوق رأسك، وتضع الإبريق النظيف في البراد، وتضع الإبريق للطهارة في المرحاض، وتضع البلاط تحت رجلك فهل ظلمت البلاط؟ لماذا ما وضعت البلاط فوق رأسك؟ لماذا ما وضعت الضوء على المدخل؟ لماذا ما وضعت إبريق الطهارة في غرفة النوم لماذا؟ لماذا الساعة لا تلبسها برجلك؟ لماذا اللفة لا تضعها في ظهرك؟ كل شيء له مكان. أنا يوم القيامة ذات من الذوات لي مكان، أين مكاني؟ متناسب معي فلا ظلم في العذاب، يعني إذا عذبنا الله ما ظلمنا، أعطانا مكاننا بكل احترام تفضل هذا مكانك في المرحاض لأنه إبريق أو تحت الأرجل لأنه بلاط. فأنا أتكون من مجموع أعمالي، هذه المجموعة تكونني وتعطيني الصورة الحقيقية وتحدد محلي في النار، أو في الجنة، أو في درجات الجنة، أو في دركات النار. 
فإذًا، نحن نرى عملنا أمامنا ﴿يوم تجد كل نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضرًا﴾ ]آل عمران، 30[، لا تفكر أن هذه العملية يوم القيامة تكون... الآن موجودة ولكن نحن لا نرى. نحن الآن علينا غطاء إلهي وستر إلهي، وهو هذا الوجه الذي يخبئ في جوفه كل شيء، وفي يوم القيامة ﴿فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديدٌ﴾ [ق، 22] أليس كذلك؟ يوم القيامة نحن نرى، ﴿ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرا يره﴾. 

هذا توضيح، نرجع إلى خلاصة الآية، الإنسان الغافل، الإنسان السكران، الإنسان النائم، الإنسان الملتهي بالحياة أول شيء الآية تضربه سوطاً على دماغه يقول: ﴿إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها * وقال الإنسان ما لها * يومئذٍ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها﴾، ربما أخبار الأرض هي أثقال الأرض هي أسرار الأرض كما قلنا، ﴿وأخرجت الأرض أثقالها﴾، يعني أسرارها، الأسرار التي طالما ثقلت على قلب الأرض. 
﴿يومئذٍ تحدث أخبارها﴾، لماذا؟ ﴿بأن ربك أوحى لها﴾، ﴿يومئذٍ يصدر الناس أشتاتًا﴾ إلى هنا تصورنا الواقعة ﴿ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرا يره﴾. أول شيء ضرب ضربة بهذا الشكل حتى يوقظ الناس وينتبهوا ويعطوا سمعهم إلى صوت الله الذي يقول: ﴿فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره﴾ فلا ظلم ولا محسوبية ولا احتساب أبدًا أبدًا. ﴿فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرا يره﴾، ﴿وان ليس للإنسان الا ما سعى﴾ [النجم، 39]. 
هذه خلاصة وجيزة من هذه السورة المباركة. في تفسير هذه السورة روايات حول الخيرات الصغار التي قلت أن لا تستصغروا الحسنات، كسرة خبز، شقة تمر، خدمة صغيرة لا توفروها، ولا تستصغروا الحسنات، ولا تحتقروا السيئات؛ كما أن الإنسان في بعض الروايات مفسر بالإمام أمير المؤمنين (س) ولا شك أنه هو الإنسان الكامل. فإذًا، هو مصداق من مصاديق البشر، ونحن كما تعلمون بطريقتنا بالتفسير، الروايات التي تعين مصاديق للآيات الكريمة نحاول أن نقول أن هذه التفسيرات مصداق من الآية، أركان من الآية ﴿وزنوا بالقسطاس المستقيم﴾ [الشعراء، 182] يفسر بـ"علي بن أبي طالب" (ع) نقول أنه هو القسطاس الكامل، هو المقياس الكامل للإنسان. فإذًا، ﴿وقال الإنسان ما لها  يومئذٍ تحدث أخبارها  بأن ربك أوحى لها  يومئذٍ يصدر الناس أشتاتًا ليروا أعمالهم  فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره  ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره﴾ أعتقد أنه ما عندي شيء، ولا شك أن ما بقي من المعاني العميقة في القرآن أكثر بكثير، وما قلنا إلا نقطة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد