مقالات

العبادة (1)

 

الشهيد مرتضى مطهري
من الأمور التي اعتبرت من استعداد الإنسان الخاص (على الأقل برأي بعض علماء النفس) هي العبادة. والبحث حول هذا الموضوع هو أولاً: هل العبادة إحساس أصيل وغريزة في الإنسان أم لا، بل هو ناتج ومتولد عن الغرائز الأخرى. نعم اجمالاً إن عدداً كبيراً من المحققين وعلماء النفس قبلوا العبادة بعنوان إحساس أصيل في الإنسان. المقالة التي ترجمها المهندس بياني والتي طبعت في أول عدد سنوي لمذهب التشيع تحت عنوان "الشعور الديني أو البعد الرابع" كانت بهذا الصدد. يشرح فيها الكاتب أن الروح الإنسانية لها أبعاد مختلفة (بعبارة أخرى توجد عدة غرائز لدى الإنسان، لا توجد في الحيوان. لكنه عبر عن الغريزة بـ"البعد" وأن الوجود الإنساني له عدة أبعاد) بعد البحث عن الحقيقة بغض النظر عن أن العلم بها مفيد لحياة الإنسان أم لا. يريد الإنسان الحقيقة لأجل الحقيقية. فلو اطلعنا على أن بعض العلماء توصلوا إلى حقيقة لا ترتبط بحياة الإنسان على الكرة الأرضية، بل لا ترتبط بالمنظومة الشمسية، وعلمها وعدم علمها غير مؤثر في حياتنا، فمع ذلك لو سئلنا: هل يعجبك أن تعلم بها أم لا تعلم؟ فلا أحد يقول بما أنها لا تفيد ولا تنفع حياتي فالعلم بها وعدمه سواء بالنسبة لي. إن الإنسان يريد أن يفهم ويتضح له كل شيء. العلم نور والجهل ظلام، يهرب الإنسان من الجهل والظلام ويميل نحو النور ذاتياً.
والبعد الآخر الذي يذكره هو البعد الأخلاقي. والمراد منه هو العاطفة الإنسانية والشعور بالمحبة للآخرين. وأنه يعتقد بأصالة هذه العاطفة.
وأما البعد الآخر فهو بعد الجمال، فهو أصيل لدى الإنسان.


والبعد الذي ذكره بعد ذلك هو العبادة. وأيد هذا كثيرون، وممن يؤكده كثيراً، "ويليام جميز" في كتابه "الدين والروح" ترجمة السيد مهدي القائني. لم أر هذا الكتاب بعد طباعته، ولكنني قرأته قبل الطبع، أنه كتاب رائع حقاً، وأن هذا العالم النفساني كما يقول ـ ويؤيده الآخرون ـ جرب وحقق في مجال حالات الإنسان الروحية والدينية مدة ثلاثين عاماً، وتوصل إلى أصالة الشعور الديني.
لو كانت التربية تامة ومتكاملة فيجب تقوية هذا الحس الإنساني. فالإنسان المتكامل أو المشرف على التكامل لا يمكن تعطيل هذا الجانب من وجوده وهكذا باقي الجوانب الأصيلة فيه. لو تعطل جانب من وجود الإنسان الحيواني "أي الجانب المشترك بين الإنسان والحيوان" ومن وجوده الإنساني المحض فهو إنسان ناقص فلا حاجة للقول باهتمام الإسلام بالعبادة وتنميته لهذا الشعور في الإنسان. فيتضح أن قسماً من كل دين هو العبادة، ويحتمل أن يكون الإشكال وارداً على الأديان للإفراط في العبادة وليس لعدم الاهتمام بها.
جواب عن إشكال


نذكر هنا مسألة في باب العبادة يمكن القول أن المسألة هي بالعكس في الأديان ـ وعلى الأقل في الإسلام الذي هو مورد بحثنا على الرغم من أنه دين ـ يجب أن يربي الشعور بالعبادة ـ إن العبادة التي وردت في الأديان لا علاقة لها بالحس العبادي، إما لأنها تتعلق بالطمع الذي يجب محاربته، أو بالخوف الذي يجب محاربته أيضاً، فالعبادة في الأديان ليست إلا معاملة. لأن الدين يحرك الإنسان إلى العبادة لأجل الجنة أو للفرار من النار. فلو صلى شخص لأجل الجنة. فما معنى الجنّة؟ نعني بها المكان الذي تتوفر فيه أنواع اللذات: من الحور والقصور (جنات تجري من تحتها الأنهار) فواكه الجنة، والأطعمة اللذيذة والأشربة غير المسكرة وأنواع اللذات التي لا يمكن تصورها للبشر. فإنسان يغمض عينيه عن لذات الدنيا لأجل لذات الآخرة، فهو ليس إلهياً ولم يقو شعور العبودية فيه، بل هو إنسان مادي جداً أكثر من عباد الدنيا. لأن الفرد الدنيوي قنع بهذه اللذات المادية المحدودة؛ لكن ذاك هو إنسان رقيق في جوانب الأمور يرى أنه لو يقضي تمام عمره سواء ثلاثين عاماً أو أربعين بهذه اللذات المحدودة فإنها قليلة فانية، فيقول: إني أقضي هذه الثلاثين أو الأربعين سنة بأي نحو كان، وأنتظر الرحيل إلى هناك لأحصل على اللذات التي تركتها هنا. إذاً المحرك له في هذا العمل هو الطمع ولا شيء غيره. وهكذا فإنه لا يرتكب المعصية للفرار من جهنم. فيعبد ويترك اللذات المادية لكي لا يعاقب. فهو أمر لا يخرج عن حدود طلب المنفعة والمصلحة. لذلك لم يعتن بالحسن العبادي في الإنسان.
وهذا ما تشكله المسيحية على الإسلام كثيراً، بأن القرآن اهتم بالنعم المادية كثيراً. ويحتمل أن يقولوا: إن القرآن يؤكد النعم المادية في ذلك العالم فقط، لذلك فهو لم ينظر إلى الحسن العبادي الذي يعتبره "علم النفس" شعوراً واحساساً رفيعاً. بل بالعكس، فإنه نظر إلى أطماع الإنسان فقط.

 

هذا الإشكال غير صحيح. فكلنا يعلم أن للعبادة مراتب ودرجات من وجهة نظر الإسلام، فإحدى مراتبها عبادة الطمع بالجنة، والأخرى عبادة الخوف من النار، وأعلى هذه الدرجات هي العبادة لا للجنة ولا للنار. وأكد هذا الأمر في القرآن وأحاديث الرسول والأئمة الأطهار (ع). ويوجد كلام طويل على هذا الأمر. والجملة المشهورة في نهج البلاغة وفي كلام الرسول (ص) والصادق (ع) وهي جملة ليست جديدة، فيمضي ألف عام عن جمع "نهج البلاغة" من قبل السيد الرضي فكيف بزمن الإمام علي (ع). يقول أمير المؤمنين (ع): "إن قوماً عبدوا الله طمعاً، فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله خوفاً، فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً "حباً" فتلك عبادة الأحرار" .
فقوم يعبدون الله لطمعهم بالجنة فهي عبادة التجارة، يعملون هنا لينتفعوا هناك. وقوم يعبدون الله لخوفهم من النار، فهؤلاء كالعبيد يعمل للخوف من سوط سيده. والبعض الآخر يعبد لا للجنة ولا للنار بل للشكر؛ أي يعرف ربه، وعندما عرفه يرى أن كل شيء منه تعالى، وعندما يرى ذلك يحركه الشعور بالشكر إلى العبادة، وهذه هي عبادة الأحرار.
فالأول عبد لطمعه، والثاني لخوفه، والثالث متحرر عن قيد الطمع والخوف فهو عبد الله فقط.


الرسول الأكرم والعبادة
وهناك حديث معروف بهذا المضمون، وقد كان الرسول (ص) يكثر من قيام الليل للعبادة وكما ينص القرآن على قيامه ثلثي الليل، وأحياناً نصف الليل أو ثلثه. وعندما رأته عائشة يقضي ليله بالعبادة، وأنه كان يقف للعبادة أحياناً إلى أن تتورم أقدامه، قالت له يوماً: لماذا تكثر من عبادة الله؟ وقد قال الله عنك (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)  قال (ص): "أفلا أكون عبداً شكوراً؟" ومن جملة أقوال الرسول (ص) بشأن القيمة المعنوية للعبادة: "أفضل الناس من عشق العبادة وعانقها وباشرها بجسده وتفرغ لها" .
ويقول الرسول (ص) أيضاً: "طوبى لمن عشق العبادة، وأحبها بقلبه وباشرها بجسده وتفرغ لها". يقصد أن العبادة ليست ذكراً في القلب فقط، بل هي العبادة العملية: الركوع، السجود، القنوت فهي نوع من العشق العملي. وتفرغ لها أي يفرغ نفسه من كل شيء سوى العبادة، أي عندما يقف للعبادة فلا يطرق قلبه أي خيال أو ذكرى أو فكرة، بل يبقى هو وربه، ويفرغ قلبه لله؛ وهذه هي روح العبادة. روح العبادة ذكر "بالمصطلح الديني" أي ذكر الله والانقطاع، أي ينقطع الإنسان عن غير الله في لحظات العبادة ويبقى مع الله وحده، كأنه لا يوجد شيء في العالم غيره هو والله تعالى. وهذه هي الحالة التي يعبر عنها الشعراء العارفين بـ"الحضور" يقول حافظ:
"ليس لحافظ حضور في العبادة، ولا للعالم علم اليقين".


كان حافظ ملتفتاً إلى مسألة الحضور والخلوة "بمعنى خلوة القلب". فالأفراد الذين يهتمون بالخلوة الظاهرية والانزواء، فذلك مقدمة لحصول الخلوة القلبية. وبعد حصول الخلوة القلبية يجب أن يأتي إلى المجتمع ليقوم بأعماله الاجتماعية، ولكن بحفظ خلوته القلبية. وقد قال نابليون "ان دماغي كمحفظات البائع، أيها أردت سحبتها، وأيها أريد أغلقتها". يجب أن توجد هذه الحالة لدى الإنسان بحيث يستطيع أن يختلي بربه حال العبادة. يقول حافظ في أحد أشعاره:
"صممت على القيام بفعل، اتخلص به من هَمِّ الدنيا".
"فخلوة القلب ليس محل الأضداد، فان خرج إبليس تدخل الملائكة محله".
ثم يشكو "قد تكون شكواه من نفسه في الحقيقة" الدخول على حكام زمانه أحياناً ويقول:
"محادثة الحكام كظلمة أطول ليلة، فاطلب النور من الشمس على أمل الوصول إليه".
"إلى متى تريد الجلوس على باب أرباب هذه الدنيا الظالمين وتنتظر حتى يخرج صاحبها".
"قدَّم كل من الإنسان الصالح والمذنب متاعه، ليرى أن عمل أي واحد منهم يقبل".
"أيها البلبل العاشق "الإنسان المؤمن"" أطلب من الله عمراً طويلاً لأن البستان سيخضروه أخرى وتتفتح الأزهار. "أي أن الظلم ينتهي ويأتي زمن العدل وتصل إلى أمنيتك".
على أية حال يقول: "وتفرغ لها" فطوبى لمن يتفرغ قلبه حين العبادة؛ تفرغاً وخلوة حقيقية. ثم يقول (ع): "فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا على عسر أم على يسر" . والقصد هو: إذا وصل الإنسان إلى هذه اللذة، فلا معنى لعذاب وتعب الدنيا عنده؛ فلا يهتم حتى لو عذب وقطع إرباً عسر الدنيا ويسرها مسألة مهمة لدى الإنسان الذي لم ينل لذة العبادة. فمن يذوق لذة العبادة لا يهتم بهذه المسائل. إننا نعجب كثيراً من طريقة علي (ع) في العيش في هذه الدنيا. لكننا لا نعلم بأنه وصل في عبادته إلى مقام لا يهمه العسر واليسر أبداً ولا يفكر به.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد