الشیخ ناصر مکارم الشیرازي ..
إذا کان القرآن نازلًا فی شهر رمضان فإنّ معناه أنّ مجموعه نزل فی هذا الشهر مع أنّه نزل قرابة مدّة ثلاثة وعشرین سنة فکیف التوفیق بین هذین الأمرین؟
فقد أجیب عنه بأجوبة نذکرها واحداً تلو الآخر:
الأوّل: إنّ للقرآن نزولین: نزول دفعي وقد عبّر عنه بلفظ الإنزال الدال على الدفعة، ونزول تدریجي وهو الذي یعبّر عنه بالتنزیل. قال سبحانه: «کِتَابٌ احْکِمَتْ آیَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَکِیمٍ خَبِیرٍ» (هود/ 1) فإنّ هذا الإحکام فی مقابل التفصیل، والتفصیل هو جعله فصلًا فصلًا، وقطعة قطعة، والإحکام کونه على وجه لا یتفصّل فیه جزء من جزء ولا یتمیّز بعض من بعض، لرجوعه إلى معنى واحد، لا أجزاء ولا فصول فیه، فعلى ذلك فالقرآن نزل دفعة واحدة على قلب النبي الأعظم، ثم صار ینزل تدریجیاً حسب المناسبات والوقائع والأحداث‏.[1]
وعلى ذلك فلا مانع من نزول جمیع القرآن فی شهر رمضان نزولًا دفعیاً، ثمّ نزوله نحو ما في بضعة وعشرین سنة.
ویلاحظ علیه: إنّ ما ذکره مبني على الفرق بین «الإنزال» و «التنزیل»، وإنّ الأوّل عبارة عن النزول الدفعي، والثاني عن النزول التدریجي مع أنّه لا دلیل علیه، فإنّ الثاني أیضاً استعمل في النزول الدفعي. قال تعالى حاکیاً عن المشرکین: «وَلَنْنُؤْمِنَ لِرُقِّیِکَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَیْنَا کِتَاباً نَقْرَؤُهُ» (الاسراء/ 93).
وقال تعالى: «وَقَالَ الَّذِینَ کَفَرُوا لَوْ لَا نُزِّلَ عَلَیْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً» (الفرقان/ 32) فلو کان التنزیل هو النزول التدریجي فلماذا وصفه بقوله: «جملة واحدة ...».
الثاني: إنّ القرآن نزل دفعة واحدة إلى البیت المعمور حسب ما نطقت به الروایات الکثیرة ثمّ صار ینزل تدریجیاً على الرسول الأعظم.
روى حفص بن غیاث عن الإمام الصادق (ع) قال سألته عن قول اللَّه عزّ وجلّ: «شَهْرُ رَمَضَانِ الَّذِى أنْزِلَ فِیهِ القُرْآن» وإنّما أنزل في عشرین بین أوّله وآخره، فقال أبو عبداللَّه علیه السلام «نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البیت المعمور ثمّ نزل في طول عشرین سنة».[2]
ولو صحّت الروایة یجب التعبّد بها، وإلّا فما معنى نزول القرآن الذي هو هدى للناس إلى البیت المعمور وأي‏ صلة بهذا النزول بهدایة الناس الذي یتکلّم عنه القرآن ویقول: «شهر رمضان الذی أنزل فیه القرآن هدى للناس وبیّنات من الهدى والفرقان».
قال الشیخ المفید: «الذي ذهب إلیه أبو جعفر[3] حدیث واحد لا یوجب علماً ولا عملًا ونزول‏ القرآن على الأسباب الحادثة حالًا لا یدلّ على خلاف ما تضمّنه الحدیث، وذلك أنّه قد تضمّن حکم ما حدث، وذکر ما جرى على وجهه، وذلك لا یکون على الحقیقة إلّا لحدوثه عند السبب، ... الخ. ثمّ استعرض [المفید] آیات کثیرة نزلت لحوادث متجددة.[4]
الثالث: إنّ القرآن یطلق على الکلّ والجزء، فمن الممکن أن یکون المراد بنزول القرآن فی شهر رمضان هو شروع نزوله فی لیلة مبارکة وهي لیلة القدر، فکما یصحّ نسبة النزول إلیه في شهر رمضان إذا نزل جملة واحدة، تصحّ نسبتة إلیه إذا نزل أوّل جزء منه في شهر رمضان واستمرّ نزوله في الأشهر القادمة طیلة حیاة النبي.
فیقال: نزل القرآن في شهر رمضان أي ‏بدأ نزوله فی هذا الشهر، وله نظائر فی العرف، فلو بدأ فیضان الماء فی المسیل یقال جرى السیل فی یوم کذا وإن استمرّ جریانه وفیضانه عدّة أیام.
وهذا هو الظاهر من صاحب «المنار» حیث یقول: وأمّا معنى إنزال القرآن في رمضان مع أنّ المعروف بالیقین أنّ القرآن نزل منجّماً فی مدّة البعثة کلّها، فهو انّ إبتداء نزوله کان في رمضان، ذلك في لیلة منه سمّیت لیلة القدر أي ‏الشرف، واللیلة المبارکة کما في آیات أخرى. وهذا المعنى ظاهر لا إشکال فیه، على أنّ لفظ القرآن یطلق على هذا الکتاب کلّه ویطلق على بعضه.[5]
الرابع: إنّ جملة القرآن وإن لم تنزل فی تلك اللیلة، لکن لـمّا نزلت سورة الحمد بها وهی تشتمل على جلِّ معارف القرآن، فکأنّ القرآن أنزل فیه جمیعاً فصحّ أن یقال: إنّا أنزلناه في لیلة القدر.
یلاحظ علیه: إنّه لو کانت سورة الحمد أوّل سورة نزلت على رسول اللَّه لکان حق الکلام أن یقال: قل بسم اللَّه الرحمن الرحیم، الحمد للَّه رب العالمین، أو یقال:
بسم اللَّه الرحمن الرحیم، قل: الحمد للَّه ربّ العالمین.[6]
وهذا یعرب عن أنّ سورة الحمد لیست أوّل سورة نزلت على النبي.
هذه هي الوجوه التی ذکرها المفسّرون المحقّقون والثالث هو الأقوى.[7]

منابع
[1] - المیزان، ج 2 ، ص 14- 16.
[2] - البرهان فی تفسیر القرآن، ج 1 ، ص 182، و الدر المنثور، ج 6 ، ص 370.
[3] - مراده الصدوق، و قد ذهب إلى أنّ القرآن قد نزل فی شهر رمضان فی لیلة القدر جملة واحدة إلى البیت المعمور ثمّ انزل من البیت المعمور فی مدة عشرین سنة. (اعتقادات الإمامیة، ص 82، باب الاعتقاد فی نزول القرآن فی لیلة القدر).
[4] - تصحیح الإعتقاد للمفید، ص 58.
[5] - تفسیر القرآن الحکیم ( المنار)، محمد رشید بن علی رضا (المتوفى : 1354هـ)، ط1990م، الهیئة المصریة العامة للکتاب، مصر، ج2، ص130.
[6] - المیزان ، ج 2 ، ص 21- 22.
[7] - الاقتباس: من مفاهیم القرآن، الشّیخ جعفرالسبحانی، ج‏7، ص:101 - 108.