مقالات

ما يبقى مع العبد عند الموت‏


الفيض الكاشاني ..
لا يبقى مع العبد عند الموت إلا ثلاث صفات : صفاء القلب أعني طهارته من‏ أدناس الدّنيا ، وأنسه بذكر اللّه ، وحبه للّه ، وصفاء القلب وطهارته لا يحصل إلا بالكف عن شهوات الدّنيا ، والأنس لا يحصل إلا بكثرة ذكر اللّه والمواظبة عليه ، والحب لا يحصل إلا بالمعرفة ، ولا تحصل المعرفة إلا بدوام الفكر وهذه الصفات الثلاث هي المنجيات المسعدات بعد الموت ، وهي الباقيات الصّالحات.
وقد ورد في الخبر «إن أعمال العبد تناضل‏(1) ، عنه فإذا جاء العذاب من قبل رجليه جاء قيام الليل يدفع عنه ، وإذا جاء من قبل يديه جاءت الصّدقة تدفع عنه».
وأما الأنس والحب فهما يوصلان العبد إلى لذّة اللقاء والمشاهدة وهذه السّعادة تتعجل عقيب الموت إلى أن يدخل الجنة فيصير القبر روضة من رياض الجنّة ، وكيف لا يكون القبر عليه روضة ولم يكن له إلا محبوب واحد ، وكانت العوائق تعوقه عن الأنس بدوام ذكره ومطالعة جماله ، فارتفعت العوائق وأفلت من السّجن وخلى بينه وبين محبوبه  فقدم عليه مسرورًا سالـمًا من الموانع آمنًا من الفراق.
وكيف لا يكون محبّ الدنيا عند الموت معذبًا ولم يكن له محبوب إلّا الدّنيا وقد غصب منه وحيل بينه وبينه وسدت عليه طرق الحيلة في الرجوع إليه وليس الموت عدمًا إنما هو فراق لمحاب الدنيا وقدوم على اللّه تعالى.
فإذن سالك طريق الآخرة هو المواظب على أسباب هذه الصفات الثلاث وهي الذكر والفكر والعمل الذي يفطمه عن شهوات الدّنيا ويبغض إليه ملاذها ويقطعه عنها ، وكل ذلك لا يمكن إلا بصحة البدن ، وصحة البدن لا تنال إلّا بالقوت والملبس والمسكن ، ويحتاج كلّ واحد إلى أسباب.
فالقدر الذي لا بدّ منه من هذه الثّلاثة إذا أخذه العبد من الدّنيا للآخرة لم يكن من أبناء الدّنيا وكانت الدّنيا في حقّه مزرعة الآخرة ، وإن أخذ ذلك على قصد التنعم وحظ النّفس صار من أبناء الدّنيا والرّاغبين في حظوظها إلا أن الرّغبة في حظوظ الدنيا تنقسم إلى ما يعرض صاحبه لعذاب اللّه في الآخرة ويسمّى ذلك حرامًا وإلى ما يحول بينه وبين الدرجات العلى ويعرضه لطول الحساب، ويسمى ذلك حلالًا.
والبصير يعلم أن طول الموقف في عرصات القيامة لأجل المحاسبة أيضًا عذاب فمن‏ نوقش في الحساب عذّب فلذلك قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «في حلالها حساب وفي حرامها عذاب»(2) ، «بل لو لم يكن الحساب لكان ما يفوت من الدرجات العلى في الجنة وما يرد على القلب من التحسّر على تفويتها بحظوظ حقيرة خسيسة لا بقاء لها هو أيضا عذاب وقس به حالك في الدنيا إذا نظرت إلى أقرانك وقد سبقوك بسعادات دنياوية كيف يتقطع قلبك عليها حسرات مع علمك بأنها سعادات منصرمة لا بقاء لها ، ومنغصة بكدورات لا صفاء لها ، فما حسرات مع علمك بأنها سعادات منصرمة لا بقاء لها ومنغصة بكدورات لا صفاء لها فما حالك في فوات سعادات لا يحيط الوصف بعظمتها وتتقطع الأزمان والدّهور دون غاياتها فكل من كانت معرفته أقوى وأتقن كان حذره من نعيم الدّنيا أشد.
حتّى أن عيسى على نبيّنا وعليه السّلام وضع رأسه على حجر لما نام ثمّ رمى به ، إذ تمثل له إبليس وقال : رغبت في الدنيا.
وحتى أن سليمان على نبيّنا و (عليه السلام) في ملكه كان يطعم الناس من لذايذ الأطعمة وهو يأكل خبز الشعير فجعل الملك على نفسه بهذا الطريق امتحانًا وشدّة ، فإن الصبر عن لذيذ الأطعمة مع وجودها أشد.
ولهذا زوى اللّه تعالى الدّنيا عن نبيّنا (صلى الله عليه وآله) فكان يطوي أياما ؛ ولهذا سلط البلاء والمحن على الأنبياء والأولياء ثمّ الأمثل فالأمثل كلّ ذلك نظرًا لهم وامتنانًا ليتوفر من الآخرة حظهم كما يمنع الوالد الشفيق ولده لذيذ الفواكه ويلزمه الفصد والحجامة شفقة عليه وحبًّا له لا بخلًا به عليه ، وقد عرفت بهذا أن كل ما ليس للّه فهو من الدنيا هو للّه ليس من الدنيا»(3).
__________________
1- ناضل عنه دافع و في الحديث : أفهمت يا هشام فهما تناضل به أعدائنا، أي تدافع به أعدائنا.
2- تنبيه الخواطر: ج 1 ، ص 152 ، و إحياء علوم الدين : ج 3 ، ص 207.
3- تنبيه الخواطر : ج 1 ، ص 153- 154

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد