مقالات

الوفاء في الحب


الشيخ محمد مهدي النراقي ..
إن من تمام الحب للإخوان في اللّه (الوفاء)، وهو الثبات على الحب ولوازمه وإدامته إلى الموت، وبعده مع أولاده وأصدقائه ، وضده (الجفاء) ، وهو قطع الحب أو بعض لوازمه في أيام الحياة، أو بعد الموت بالنسبة إلى أولاده وأحبته، ولولا الوفاء في الحب لما كانت فيه فائدة، إذ الحب إنما يراد للآخرة ، فإن انقطع قبل الموت لضاع السعي وحبط العمل ، ولذلك قال رسول اللّه في السبعة الذين يظلمهم اللّه يوم القيامة : «وأخوان تحابا في اللّه اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه».
وروي : «أنه (صلى الله عليه وآله) كان يكرم بعض العجائز كلما دخلت عليه ، فقيل له في ذلك  فقال : إنها كانت تأتينا أيام خديجة ، وإن كرم العهد من الدين».
فمن الوفاء مراعاة جميع الأصدقاء والأقارب والمتعلقين ، ومراعاتهم أوقع في القلب من مراعاة الأخ المحبوب في نفسه ، فإن فرحه بتفقد من يتعلق به أكثر من فرحه بتفقد نفسه ، إذ لا تعرف قوة المحبة والشفقة إلا بتعديها من المحبوب إلى كل من يتعلق به ، حتى إن من قوي حبه لأخيه تميز في قلبه كلبه الذي على باب داره من سائر الكلاب.
ولا ريب في أن المحبة التي تنقطع - ولو بعد الممات - لا تكون محبة في اللّه ، إذ المحبة في اللّه دائمة لا انقطاع لها.
فما قيل من أن (قليل الوفاء بعد الوفاة خير من كثيره حال الحياة) إنما هو لدلالته على كون الحب في اللّه.
وبالجملة : الوفاء بالمحبة تمامها ، ومن آثار الوفاء أن يكون شديد الجزع من مفارقته ، وألا يسمع بلاغات الناس عليه ، وأن يحب صديقه ويبغض عدوه ، وليس من الوفاء موافقة الأخ فيما يخالف الحق في أمر يتعلق بالدين ، بل من الوفاء المخالفة له وإرشاده إلى الحق.
هذا وأما البعد والأنس ، فقد عرفت أن الأنس عبارة عن استبشار القلب بما يلاحظه من المحبوب بعد الوصول ، والبعد خلافه ، والأنس والخوف والشوق كلها من آثار المحبة ، وكل واحد منها يرد على المحب بحسب نظره ، ومما يغلب عليه فى وقته ، فإذا غلب عليه التطلع من وراء حجب الغيب إلى منتهى الجمال ، واستشعر قصوره من الاطلاع على كنه الجلال ، انبعثت النفس وانزعجت له وهاجت إليه ، فسميت هذه الحالة في الانزعاج (شوقًا)  وهو بالإضافة إلى أمر غائب ، وإذا غلب عليه الفرح بالقرب ومشاهدة الحضور بما هو حاصل من الكشف ، وكان نظره مقصورًا على مطالعة الجمال الحاضر المكشوف ، غير ملتفت إلى ما لم يدركه بعد ، استبشر القلب بما يلاحظه فيه.
فيسمى استبشاره (أنسًا) ، وإن كان نظره إلى صفات العز والجلال والاستغناء وعدم المبالاة ، واستشعر إمكان الزوال  البعد ، تألم قلبه بهذا الاستشعار، فيسمى‏ تألمه (خوفًا)، وهذه الأحوال تابعة لهذه الملاحظات ، فإن غلب الأنس وتجرد عن ملاحظة ما غاب عنه وما يتطرق إليه من خطر الزوال ، عظم نعيمه ولذته ، وغلب عليه الأنس باللّه ، ولم تكن شهوته إلا في الانفراد والخلوة ، وذلك لأن الأنس باللّه يلازمه التوحش من غير اللّه ، بل كلما يعوق من الخلوة يكون أثقل الأشياء على القلب ، كما روي : «أن موسى (عليه السلام) لما كلمه ربه مكث دهرًا لا يسمع كلامه أحد من الخلق إلا أخذه الغشيان» ، ولأن الحب يوجب عذوبة كلام المحبوب وعذوبة ذكره ، فيخرج عن القلب عذوبة ما سواه ، فإن خالط الناس كان كمنفرد في جماعة ، ومجتمع في خلوة ، وغريب في حضر، وحاضر في سفر، وشاهد في غيبة ، وغائب فى حضور، ومخالط بالبدن ، متفرد بالقلب المستغرق في عذوبة الذكر، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصفهم : «هم قوم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها متعلقة بالمحل الأعلى ، أولئك خلفاء اللّه في أرضه ، والدعاة إلى دينه».

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد