مقالات

إحضار القلب في الصلاة


الفيض الكاشاني ..
إن المؤمن لا بد وأن يكون معظما للّه وخائفًا منه وراجيًا ومستحييًا من تقصيره ، فلا ينفك من هذه الأحوال بعد إيمانه ، وإن كانت قوتها بقدر قوة يقينه ، فانفكاكه عنها في الصّلاة لا سبب له إلا تفرق الفكر ، وتقسّم الخاطر ، وغيبة القلب عن المناجاة ، والغفلة عن الصّلاة ، ولا يلهي عن الصّلاة إلا الخواطر الرّدية الشاغلة .
فالدواء في إحضار القلب هو دفع تلك الخواطر ، ولا يدفع الشي‏ء إلا بدفع سببه ، وسبب توارد الخاطر ؛ إما أن يكون أمرًا خارجًا ، أو أمرًا في ذاته باطنًا ، أما الخارج ؛ فما يقرع السمع ، أو يظهر للبصر ، فإن ذلك قد يختطف ‏(1) ، الهم حتّى يتبعه ويتصرّف فيه ؛ ثم ينجر منه الفكر إلى غيره ويتسلسل ويكون الإبصار سببًا للافتكار ، ثم يصير بعض تلك الأفكار سببًا للبعض ، ومن قويت رتبته وعلت همّته ،لم يلهه ما يجري على حواسّه ، ولكن الضعيف لا بد وأن يتفرغ به فكره .
فعلاجه قطع هذه الأسباب بأن يغض بصره ويحترز من الصّلاة على الشوارع ، وفي المواضع المنقوشة المصبوغة ، ولذلك كان المتعبّدون يتعبّدون في بيت صغير مظلم سعته بقدر السجود ، ليكون أجمع للهمّ ، والأقوياء كانوا يحضرون المساجد ، ويغضّون البصر ولا يجاوزونه موضع السّجود ، كما ورد الأمر به ، ويرون كمال الصّلاة في أن لا يعرفوا من على يمينهم وشمالهم.
وأمّا الأسباب الباطنة ؛ فهي أشدّ ، فإن من تشعبت الهموم به في أودية الدنيا لم ينحصر فكره في فن واحد ، بل لا يزال يطير من جانب إلى جانب ، وغض البصر لا يغنيه فإن ما وقع في القلب من قبل كاف للشغل .
فهذا طريقه أن يرد النفس قهرًا إلى فهم ما يقرؤه ، ويشغلها به عن غيره ، ويعينه على ذلك أن يستعدّ له قبل التحريم ، بأن يجدد على نفسه ذكر الآخرة ، وموقف المناجاة ، وخطر المقام بين يدي اللّه ، وهول المطلع ، ويفرغ قلبه قبل التحريم بالصّلاة عما يهمّه ، فلا يترك لنفسه شغلًا يلتفت إليه خاطره ، فهذا طريق تسكين الأفكار .
فإن كان لا تسكن أفكاره بهذا الدواء ، فلا ينجيه إلّا المسهل الذي يقمع‏ (2) ، مادّة الداء من أعماق العروق ، وهو أن ينظر في الأمور الشّاغلة الصارفة له عن إحضار القلب ، ولا شك في أنها تعود إلى مهماته ، وأنها إنما صارت مهمّة بشهواته فليعاقب نفسه بالنزوع عن تلك الشهوات ، وقطع تلك العلايق ، فكل ما يشغله عن صلاته فهو ضدّ دينه ، وجند إبليس عدوّه ، فإمساكه أضرّ عليه من إخراجه ، فيتخلص عنه بإخراجه ، ولا يغني غير ذلك ، فإنّ ما ذكرناه من التلطف بالتسكين ، والرّد إلى فهم الذكر ؛ إنما ينفع في الشهوات الضعيفة ، والهم التي لا تشتغل إلّا حواشي القلب.
فأما الشهوة القوية المرهقة ، فلا ينفع معها التسكين ، بل لا يزال تجاذبها وتجاذبك ، ثم تغلبك وينقضي جميع صلاتك في شغل المجاذبة.
ومثاله مثال رجل تحت شجرة أراد أن يصفو له فكره ، وكانت أصوات العصافير تشوّش عليه ، فلم يزل يطردها بخشبة هي في يده ، ويعود إلى فكره فيعود العصافير ، فيعود إلى التنفير بالخشبة ، فقيل له إن هذا سير السّواني ولا ينقطع فإن أردت الخلاص فاقطع الشجرة .
فكذلك شجرة الشهوة إذا استعلت وتفرعت أغصانها انجذبت إليها الأفكار انجذاب العصافير إلى الأشجار ، وانجذاب الذباب إلى الاقذار ، والشغل يطول في دفعها فإنّ الذّباب كلما ذبّ آب‏(3)، و لأجله سمّي ذبابًا ، فكذلك الخواطر وهذه الشهوات كثيرة قلما يخلو العبد عنها ، ويجمعها أصل واحد وهو حبّ الدنيا ، وذلك رأس كلّ خطيئة وأساس كل نقصان ومنبع كل فساد.
ومن انطوى باطنه على حبّ الدّنيا حتى مال إلى شي‏ء منها لا ليتزوّد منها و يستعين بها على الآخرة ، فلا يطمعن في أن يصفو له لذّة المناجاة في الصّلاة ، فإن من فرح بالدنيا فلا يفرح باللّه وبمناجاته وهمة الرّجل مع قرة عينه ، فإن كانت قرة عينه في الدنيا انصرف لا محالة إليها همه ولكن مع هذا فلا ينبغي أن يترك المجاهدة وردّ القلب إلى الصّلاة وتقليل الأسباب الشاغلة.
فهذا هو الدّواء ولمرارته استصعبه الطبايع ، وبقيت العلة مزمنة ، وصار الداء عضالًا(4)، حتى أن الأكابر اجتهدوا أن يصلّوا ركعتين لا يحدّثون أنفسهم فيهما بأمور الدنيا ، فعجزوا عنه ، فإذن لا مطمع فيه لأمثالنا ، وليته سلم لنا من الصّلاة شطرها أو ثلثها عن الوسواس ، لنكون ممن خلطوا عملًا صالحا وآخر سيئًا ، وعلى الجملة فهمّة الدّنيا وهمّة الآخرة في القلب مثل الماء الذي يصب في قدح فيه خلّ ، فبقدر ما يدخل فيه من الماء يخرج منه الخل لا محالة ، ولا يجتمعان.
______________________
1- خطف الشي‏ء استلبه بسرعة. المنجد.
2- قمعه كمنعه : قهره و ذلله ق.
3- الذب: الطرد ، و الاوب : الرجوع.
4- عضل به الامر اشتد ، المنجد ، و الداء العضال : المرض الصعب الشديد الذي يعجز عنه الطبيب م.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة