مقالات

"التقوى" رسالة رمضان


الإمام الخامنئي "دام ظله" ..
أدعو جميع الأخوة والأخوات الأعزّاء إلى التزام التقوى الإلهية، ومعرفة أهمية شهر رمضان الذي هو شهر الوصول إلى التقوى، وصيام هذا الشهر هو الوسيلة التي تعين الإنسان على سلوك طريق التقوى فلنقرب بأنفسنا إلى هذه الدرجة من التدين التي تسمى بـ"التقوى".
وفائدة التقوى في حياة الإنسان تشمل كثيراً من الأمور إحدى هذه الأمور هي أن الإنسان المتقي يستطيع صيانة نفسه من منزلقات ومطبات الحياة، وبينما الإنسان غير المتقي لا يمكنه ذلك، وباستطاعة الإنسان أن يمتلك روح التقوى التي هي عبارة عن مراجعة الإنسان الدائمة لنفسه وأعماله وحتى أفكاره وما يفعله وما يتركه التي تنسب إليه وعدم الغفلة عن ذلك. وإذا استطاع الإنسان أن يوجد هذه الحالة في نفسه فإنه سوف يفوز في الامتحانات الإلهية التي يمر بها في حياته.
أيها الأخوة والأخوات أن الجميع يمرون بهذا الامتحان فالأمم تمتحن بما هي أمم والأفراد يمتحنون بما هم أفراد.
الاختبارات متباينة لكنها قائمة على أي حال. فعندما تعرض على النفس لذة مخالفة للشرع تميل النفس إليها، فهذا من مواضع الامتحان والاختبار، وعندما يعرض على الإنسان مال يستطيع الحصول عليه خلافاً للشرع والتشريع الإلهي فهذا موضع آخر للامتحان الإلهي، وعندما يتحدث الإنسان بحديث يستبطن مصلحة شخصية فهو حديث باطل في الحقيقة، وحين يصبح الكلام واجباً على الإنسان رغم ما يتبعه من مخاطر ومتاعب أخرى فهذا اختبار آخر للإنسان.
وحينما نقيس هذه القضية بمقياس الشعوب والأمم فالنتيجة مماثلة لذلك أيضاً، فعندما تحصل أمة على الثروة والرفاه وتكسب القوة والنصر وتحقق التقدم العلمي فهذا امتحان واختبار لتلك الأمة. وإذا استطاعت الأمم صيانة نفسها من الانحراف وهي في قمة اقتدارها فإنها ستخرج من الاختبار مرفوعة الرأس.
وما إذا أصيبت الشعوب والمجتمعات بالغرور والابتعاد عن الله سبحانه نتيجة لحصولها على الراحة والرخاء فستخرج خاسرة من الامتحان الذي تتعرض له، لذلك فإن القرآن يخاطب النبي في سورة "النصر" القصيرة، ﴿ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ هذه هي قمة اقتدار نبي من الأنبياء عندما ينزل الله عليه النصر وافتح ويدخل الناس أفواجاً في دينه، هنا يجب على الإنسان أن يراقب نفسه، لذلك فإن القرآن يقول: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ ، يعني عليك أن تذكر الله في ساعة النصر وتحمده وتسبحه لأن هذا النصر كان من الله وليس منك.
لا تنظر إلى نفسك بل انظر إلى قدرة الله سبحانه، فقائد إلهي وحكيم كالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يسعى في مثل هذه الظروف أن لا تخرج الأمة عن الطريق القويم، وهنا يأتي دور التقوى التي تستطيع أن تنقذ الأمة من الضلال والانحراف.
وإذا كانت الأمة تقية فإنها ستواصل مسيرتها في طريق التقدم والإيمان وطريق العبودية لله سبحانه، ولكن إذا ابتعدت الشعوب عن طريق التقوى فإنها ستبتلى بما ابتليت به الأمم السابقة عندما أصيبت بالاستكبار والغرور والظلم والطغيان والانحراف، فأضلت الناس وخربت الدنيا وأفسدتها وأخيراً سقطت هي أيضاً، كما نجد ذلك في أماكن عديدة من التاريخ، وكنموذج لذلك ما حدث لبعض الإمبراطوريات العظيمة في السنوات الأخيرة كنتيجة طبيعية لانحرافها عن طريق التقوى.
إن كل البعيدين عن طريق التقوى في العالم سواء كانوا أفراداً أو شعوباً يجب عليهم أن ينتظروا سقوطهم الحتمي الذي لا بد له أن يتحقق، فالسقوط هو النتيجة الحتمية للابتعاد عن طريق التقوى، ومن الطبيعي فإن السقوط يسبقه الانحراف والخراب والفساد.
والآن أتعرض لجزء يسير من التجربة القرآنية الخاصة بأصحاب النبي نوح عليه السلام والمؤمنين به، لأن المؤمنين بنوح عليه السلام كانوا من الصفوة المختارة بالتأكيد، وقد أمعنت النظر في الآيات الواردة في سورة هود والتي تحدثت طويلاً عن النبي نوح عليه السلام وعن أصحابه.
لقد دعا نوح قومه تسعمئة وخمسين سنة فكانت النتيجة لهذه السنوات الطويلة من الدعوة والتبليغ إيمان عدد قليل من أفراد المجتمع الجاهل والطاغي فقط ﴿وما آمن معه إلا قليل﴾، إن ساعة البلاء"الطوفان" كانت قد اقتربت من ذلك المجتمع.
بدأ نوح عليه السلام بصنع السفينة في اليابسة فكان ذلك سبباً لسخرية كل الذين كانوا يمرون عليه، لأن المفروض أن تصنع السفينة قريباً من ساحل البحر وليس في اليابسة التي كانت تفصلها مسافة بعيدة عن البحر. إذ كيف يعقل أن تصنع سفينة كبيرة يراد لها أن تحمل جماعة من الناس بعيداً عن ساحل البحر  ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾.

ولكن المؤمنين بنوح تحمّلوا كل هذا الاستهزاء والسخرية من غير أن يعرفوا الغاية التي من أجلها تصنع السفينة، ولم يكن أحد يعرف ما سيحدث من طوفان وفوران للماء من الأرض والسماء.
فهؤلاء المؤمنون كان إيمانهم من القوة بحيث استطاعوا الصمود أمام كل ذلك الاستهزاء والسخرية وضغط الرأي العام الذي كان يوجهه المتسلطون في ذلك المجتمع، وكان أولئك المؤمنون من الطبقة السفلى في المجتمع ﴿فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ ولعلهم كانوا يعتبرون من مواطني الدرجة الثالثة أو الرابعة لذلك المجتمع.
الآن أنتم تصوروا فئة قليلة مستضعفة تقف مقابل فئة كبيرة تمتلك جميع وسائل القوة والاقتدار من ثروة وقوة ووسائل إعلام.
كانت الإهانة والسخرية توجه إلى هذه المجموعة الصغيرة المحيطة بالنبي نوح عليه السلام ولكنها كانت تصبر وتتحمل وكان هذا يتطلب إيماناً قوياً من الإنسان، وعندما جاءت مسألة صنع السفين تبينت قوة إيمانهم أكثر من السابق فلم يأتوا إلى نبيهم ويعترضوا عليه لأنه يصنع السفينة في اليابسة بعيداً عن البحر وأصبح بذلك سبباً للسخرية منهم بل تحملوا ذلك وصبروا عليه.
تصوروا شخصاً يريد أن يصنع سفينة في إحدى الساحات العامة لإحدى المدن الكبرى مثل طهران التي يفصلها مئات الفراسخ عن ساحل البحر فهل هناك تبرير لهذا التصرف الغريب.
لقد كان يبدو أن الحق مع الذين كانوا يستهزئون من هذا التصرف، لكن الذين آمنوا بنوح تحملوا هذا الاستهزاء الذي كان يبدو منطقياً، وهذا كان يتطلب إيماناً قوياً وثابتاً.
وبعد كل ذلك بدأت الأمطار تهطل من السماء وتفجرت الأرض عيوناً، أمر نوح أصحابه بركوب السفينة، فأركبوا الحيوانات أولاً بأجمعها ﴿قلنا احمل فيها من كلِّ زوجين اثنين وأهلك﴾، فقد كان من الواضح أن البلاء في هذه الحادثة سوف لا يرحم أي شيء في الدنيا، ركبوا في السفينة فجرت بهم وقد عم الماء جميع أرجاء الكرة الأرضية، فأغرق الناس وجميع الحيوانات، ولم يبق سوى هذه المجموعة الصغيرة التي آمنت بنوح عليه السلام.
وبهذا فإن امتحان الكفار كان قد انتهى. بينما امتحان المؤمنين قائم ومستمر. كانت تلك الفترة فترة امتحان وتحمل المتاعب والسخرية والاستهزاء والصبر على ما كانوا يتعرضون له في عهد النبي نوح عليه السلام.......
إن مستنقع الاختبار يصعب عبوره، فنفس الثلة القليلة التي آمنت بنوح عليه السلام وتحملت تلك الشدائد والمصائب تدخل الآن مرحلة الرخاء ﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيم﴾ انتهى الطوفان ورست السفينة وكان من المقرر أن ينزلوا إلى دنيا خالية من الشرك والطغيان وهذا عكس ما حدث للجمهورية الإسلامية تماماً.
بدأ أصحاب نوح حياتهم الإسلامية والإلهية في عالم خالٍ من المستكبرين والمترفين. يقول القرآن الكريم:  ﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيم﴾.
 فهذه التحية وهذا اللطف الإلهي لا يشمل كل المؤمنين الذين خرجوا بنجاح من امتحان هذه المرحلة، فهذا السلام الإلهي يشمل البعض منهم فقط: ﴿وأمم سنمتعهم ثم يمسّهم منا عذاب أليم﴾، وأما بعض من كان معك فسوف نمتعهم وبعد هذا التمتع وبعد أن يذوقوا طعم الأمن والرفاه ﴿يمسّهم منا عذاب أليم﴾، سوف نعذبهم عذاباً أليماً وذلك يعني أنهم سيفشلوا في الامتحان الإلهي ويتراجعوا في مرحلة الرخاء.
إذاً من يستطيع أن يخرج مرفوع الرأس من هذا الاختبار الإلهي: أنهم الناس المتقون كما قال أمير المؤمنين في الرواية التي قرأتها في بداية البحث، يقول عليه السلام: "من فارق التقوى أغري باللذات والشهوات ووقع في تيه السيئات ولزمه كثير التبعات"..........
وفي نفس الآيات الواردة في قصة النبي نوح عليه السلام بعد الآية التي قرأتها يقول الله تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾. فالعاقبة الحسنى ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة التقوى، وفي قصة نوح كانت الآية تشير إلى أن العلة الأساسية لسقوط أولئك الذين سقطوا هي ابتعادهم عن طريق التقوى......
هذه هي رسالة شهر رمضان المبارك فقوله  ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾  هو مقدمة للحصول على التقوى، التقوى هي الغاية المنشودة.
اللّهم بحق محمد وآل محمد نور قلوبنا بالتقوى، اللّهم اجعلنا من المتقين ولا تحرمنا من بركات التقوى ولا من بركات شهر رمضان، اللّهم اجعل النور في قلوبنا وفي أفكارنا وفي أعمالنا وفي أقوالنا، اللّهم بحق محمد وآل محمد اجعل قوتنا في طاعتك...

بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَالْعَصْرِ  * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ  *  إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر﴾.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد