مقالات

شهر رمضان في كلام الإمام الخميني "قدس سره" (2)


إن أعمال الإنسان طبقاً لبعض الآيات واستناداً إلى تفسير بعض الأحاديث تعرض على رسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام وتمر من أمام أنظارهم المباركة. فعندما ينظر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى أعمالكم ويراها مليئة بالأخطاء والذنوب، فكم سيتأثر ويتألم؟ فلا تكونوا ممن يؤلم رسول الله ويثير تأثره. لا تكونوا ممن يثير الحزن والألم في قلب رسول الله.
فعندما يرى (صلوات الله عليه وآله) صفحات أعمالكم زاخرة بالغيبة والتهمة والإساءة إلى المسلمين، ويرى كل توجهاتكم وهمومكم منحسرة في الدنيا والماديات، ويشاهد قلوبكم طافحة بالبغضاء والحسد والحقد وإساءة الظن بعضكم ببعض، عندما يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل هذه، من الممكن أن يستحي أمام الله تبارك وتعالى وملائكته، لأن أمته وأتباعه لم يشكروا نعم الله تعالى، وخانوا بكل وقاحة وجرأة أمانات الله تبارك وتعالى. فالشخص الذي يرتبط بك ولو كان خادمك يخجلك إذا ما ارتكب عملاً مشيناً، وأنتم مرتبطون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. إنكم بمجرد دخولكم الحوزات العلمية تكونون قد ربطتم أنفسكم بفقه الإسلام وبالرسول الأكرم والقرآن الكريم. فإذا ما ارتكبتم عملاً قبيحاً فسوف يمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويسيء إليه، ومن الممكن أن يلعنكم لا سمح الله. فلا تسمحوا لأنفسكم أن تحزنوا قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقلوب الأئمة الأطهار، وتكونوا سبباً في آلامهم.
إن قلب الإنسان كالمرآة صافٍ ومضيء، ولكنه يتكدر نتيجة تكالبه على الدنيا وكثرة المعاصي. فإذا استطاع الإنسان أن يؤدي على الأقل الصوم بنية خالصة منزهة من الرياء (ولا أقول إن العبادات الأخرى لا ينبغي توافر الإخلاص فيها، بل إن الصدق والنية الخالصة شرط في جميع العبادات)، وإذا تمكن أن يبقى طيلة هذا الشهر المبارك معرضاً عن الشهوات مجتنباً اللذائذ منقطعاً عما سوى الله تعالى، وقام بعبادة الصوم كما ينبغي، فقد تشمله عناية الله فتزول عن مرآة قلبه ما علق بها من الغبش وما اعتراها من الكدر وما خيّم عليها من ظلام الذنوب، ويكون ذلك سبباً في أن يعرض الإنسان كلياً عن الدنيا المحرمة ولذائذها، وحينها يرغب في ورود "ليلة القدر" يكون قد أصبح أهلاً لأن ينال الأنوار التي يتحقق في تلك الليلة للأولياء والخلص من المؤمنين.
وإن الذي يجزي مثل هذا الصوم هو الله تبارك وتعالى كما قال عنه جل وعلا: "الصوم لي وأنا أجزي به". فليس بمقدور شيء آخر أن يكون ثمناً لمثل هذا الصوم، حتى جنات النعيم لا تعني شيئاً أمام صومه ولا يمكن أن تكون ثمناً له.
أما إذا أراد الإنسان أن يكون صيامه حبس الفم عن الطعام وإطلاقه في اغتياب الناس وفي قضاء ليالي شهر رمضان المبارك حيث تكون المجالس الليلية عامرة وتوافر فرصة أكبر لتمضية الوقت إلى الأسحار في اغتياب المسلمين وتوجيه التهم والإهانة لهم، فإنه لن يجني من صومه شيئاً، بل يكون بهذا الصوم قد أساء آداب الضيافة وأضاع حق ولي نعمته الذي خلق له كل وسائل الحياة والراحة، ووفّر له أسباب التكامل، حيث أرسل الأنبياء لهدايته وأنزل الكتب السماوية ومنح الإنسان القدرة للوصول إلى معدن العظمة والنور الأبهج، وأعطاه العقل والإدراك وكرّمه بأنواع الكرامات.
وها هو قد عاد إلى ضيافته، والجلوس إلى مائدة نعمته، وحمده وثنائه بكل ما تقدر على أدائه الأيدي والألسن. فهل يصح أن يتمرد العباد الذين نهلوا من نعمته واستفادوا من وسائل وأسباب الراحة التي وضعها تحت تصرفهم، يتمردوا على مولاهم ومضيفهم وينهضوا لمعارضته ويطغوا؟. لقد هيّأ لهم الله تبارك وتعالى كل الأسباب، فهل يصح أن يسخروها لمعصيته وخلافاً لمرضاته؟
أليس هذا كفراناً للنعمة، بأن يجلس الإنسان إلى مائدة مولاه ثم يتجرأ عليه بأفعاله القبيحة وتصرفاته المشينة ويسيء أدبه مع مضيفه وولي نعمته، ويرتكب أعمالاً قبيحة لدى مضيفه؟
ينبغي على الأقل للضيف أن يكون عارفاً بالمضيف مدركاً لمقامه، ومن خلال اطلاعه على عادات وتقاليد المجلس يحرص أن لا يصدر عنه ما ينافي الأخلاق ويسيء إليه.. فلابد لضيف الله سبحانه أن يكون عارفاً بمقامه العظيم ذي العزة والجلال.. المقام الذي كان الأنبياء العظام والأئمة الكرام يسعون دوماً للاستزادة من معرفته والإحاطة به إحاطة كاملة، وكانوا يتمنون أن يصلوا إلى معدن العظمة هذا: "وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة"، وإن ضيافة الله هي "معدن العظمة" هذا. وقد دعا الله سبحانه عباده واستضافهم ليمكنهم من بلوغ معدن النور والعظمة. ولكن إذا لم يكن العبد لائقاً، فلن يتمكن من بلوغ مثل هذا المقام السامي والعظيم.

لقد دعا الله تبارك وتعالى العباد لكل الخيرات والمبرات والكثير من اللذائذ الروحية والمعنوية. ولكن إذا لم يكن العباد أهلاً للحضور في مثل هذه المقامات السامية، فلن يتمكنوا من بلوغ ذلك، فكيف يمكن الحضور في حضرة الحق تعالى والدخول في ضيافة رب الأرباب الذي هو "معدن العظمة"، مع كل هذه التلوثات الروحية والرذائل الأخلاقية والمعاصي القلبية والظاهرية؟.
إن الأمر بحاجة إلى لياقة واستحقاق، ولا يمكن إدراك هذه المعاني بوجوه مسودة وقلوب ملوثة بالمعاصي وملطخة بالآثام. فلابد من تمزيق هذه الحجب وإزالة هذه الغشاوة المظلمة والمضيئة التي كست القلوب ومنعتها من الوصول إلى الله، حتى يمكن الدخول في المجلس الإلهي النوراني ذي العظمة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد