مقالات

الرئاسة


المشكيني ..
الرئاسة من مصاديق الدنيا، وحبها من حب الدنيا، إلا أن لها أهمية وخطراً وشأناً ومحلاً يقتضي تخصيصها بالذكر كتاباً، وبتوجيه النفس إلى حالاتها وآثارها باطناً، وبالمراقبة عن موجباتها احتياطاً.
وليعلم أن الرئاسة والجاه منها ممدوحة ومنها مذمومة، والأولى هي التي جعلها الله وأنشأها لبعض عباده: كأنبيائه وأوصيائه ومن يتولى الأمور والرئاسة من قبلهم على اختلاف شؤونهم ودرجاتهم، وهذا القسم الذي في مقدمه منصب الأمامة مقام محمود، وجاه ممدوح، خص الله به أولياءه وحفظهم بنحو العصمة التكوينية والتوفيقات الغيبية الإلهية والأوامر والفرامين التشريعية عن خطراته وزلاته.
والمعصومون يجب عليهم قبولها من ناحية الله تعالى، وعليهم حفظها والدفاع عنها والقتال مع من يزاحمهم فيها أو يريد غصبها، إذ هي كما أنها حق للمعصوم المتصدي لها والمتلبس بها فهي حق الله تعالى عهده إليهم، وأمانته التي أودعها عندهم، وحق للناس فإنها مجعولة لأجلهم ولهدايتهم وإصلاح حالهم وفوزهم، ونجاتهم في دنياهم وسعادتهم ونجاحهم في أخراهم، فالمتصدي الغاصب لها قد ظلم ربه وإمامه وعباد الله تعالى. وقال النبي يوسف (عليه السلام): (اجعلني على خزائن الأرض) وكان المقام الذي سأل فرعاً من فروع حقه وشعبة من أصوله تمكن من أخذه فطلبه.
ويجب على غير المعصوم أيضاً فيما ولاه من المناصب الشرعية وترتيب آثارها والعمل بوظائفها ما دامت باقية مع رعاية عدم الوقوع في العصيان لأجلها، وقد بين حدودها في الفقه، وذلك كمنصب الإفتاء والولاية، والحكومة على الناس، والحكم والقضاء بينهم والمناصب الجندية والإدارية، وغيرها مما كانت مجعولة من ناحية الإمام الوالي على الناس، أو من نصبه الإمام والياً لإدارة أمور المجتمع، فمن قصد بقبولها طاعة الإمام والشفقة على عباد الله وإحقاق حقوقهم وحفظ أموالهم وأعراضهم ودمائهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ الحدود ومرابطة الثغور، فهو من أفضل المجاهدات والعبادات.
ومن غصبها من أهلها وتقمص بها، أو لم يكن غرضه من قبولها من أهلها والتصدي بها إلا الجاه بنفسه والتلذذ بعنوانه، ولم يرتب عليها ما هي مطلوبة لأجله فهو من الأخسرين أعمالاً الذين ضل ... الخ. والذم والوعيد بالهلاك ونحو ذلك واردة في هذا القسم.
والحاصل: أن الجاه كالمال فقد يرى الإنسان له أصالة، توله حرص في جمعه والإستلذاذ بتكثيره وتكنيزه، وقد لا يكون الغرض إلا إمرار معاشه، وإدارة أمور مجتمعه، وعمارة البلاد، وإصلاح العباد. وورد من النصوص في هذا المقام (ما فيه مزدجر حكمة بالغة وما تغني النذر).  
ثم إنه يظهر لك من ذلك أن جميع الرئاسات والولايات والسلطات الموجودة في هذه الأعصار، بل من بدء وقوع الانحراف في المناصب الإلهية وخروجها عن أيدي أهلها ومن أهّله الله لتصدّيها في الاجتماعات البشرية، باطلة غير ممضاة من الشرع. وأن جل المفاسد الواقعة بين الناس لولا كلها من الكفر والشرك والفحشاء والمنكر وضياع الحقوق وهتك الأعراض وتلف الأموال والنفوس مستندة إلى ذاك الانحراف وتلك الولايات الخارجة عن سلطة صاحبها. وأن الرؤساء والمتصدين للولايات والحكومات في المجتمعات البشرية اليوم، موقوفون غداً عند ربهم، مسؤولون بأسوء الحساب ومعاقبون بأعظم العقاب. كيف وقد قال تعالى: (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين)! هؤلاء الأنبياء فكيف بغيرهم؟ ونعوذ بالله تعالى من شر النفس، ونقول: (رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون).
ولو أدعي أن بعض تلك المناصب مجعول من ناحية الناس أنفسهم فلهم أن يختاروا في أمور دنياهم ولياً ورئيساً وسائساً ومدبراً، له تسلط محدود، فلا يكون باطلاً ولا مشمولاً للذموم المستفادة من الأدلة، فهي على فرض قبول كبراها مخدوشة في صغراها، فراجع أحوال الممالك والأمم، وليس استقصاء ذلك مما يقتضيه أبحاث الكتاب. قال الله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين).
وورد في النصوص: أنه ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرق رعاؤها بأضر في دين المسلم من طلب الرئاسة (ضرى الحيوان بالصيد: اعتاد أكله، والرعاء: جمع الراعي، والرئاسة: العلو والسلطة والتفوق).
وأنه من طلب الرئاسة هلك.
وأنه: إياكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسون، فوالله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلك وأهلك.
وأنه: إياك والرئاسة، إياك أن تطأ أعقاب الرجال أي: تنصب رجلاً دون الحجة فتصدقه في كل ما قال.
وأنه: ملعون من ترأس، ملعون من هم بها، ملعون كل من حدث بها نفسه.
وأنه لا تطلبن الرئاسة، ولا تكن ذنباً. ولا تأكل بنا الناس فيفقرك الله.
وأن الصادق (عليه السلام) قال: أتراني لا أعرف خياركم من شراركم؟ بلى والله، وإن شراركم من أحب أن يوطأ عقبه، إنه لابد من كذاب أو عاجز الرأي.
وأن: من أول ما عصي الله به حب الرئاسة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد