من التاريخ

دَولَة البويهيّين (1)


من هم بنو بويه:
إن قصة بني بويه تشبه الخرافات والأساطير، وأي إنسان يقرأ أن رجلاً فقيراً لا يملك، ولا يقدر على شيء وينقل الحطب على رأسه من الجبال إلى البيوت ليحصل على الرغيف يقفز من حاله هذه إلى الملك الطويل العريض، والسيطرة على بلاد العرب والعجم، أي إنسان يقرأ هذا، ولا يراه أسطورة وخرافة؟ ولكن هذا ما حصل بالفعل لآل بويه.
كان في أوائل القرن الرابع الهجري في بلاد الديلم رجل فقير يدعى «أبو شجاع بويه» ماتت زوجته، وخلفت له ثلاثة بنين، وهم أبو الحسن علي، وأبو علي الحسن، وأبو الحسن أحمد، فاشتد حزنه، وضاقت به الأرض، فقال له أحد أصحابه يعزيه ويسليه: ارفق بنفسك، وأولادك هؤلاء المساكين، ثم أخذه مع أولاده إلى منزله، وهيأ لهم الطعام، وشغل أبا شجاع عن مصابه وآلامه.


قال ابن الأثير في حوادث سنة 321:
فبينما هم كذلك إذ مر رجل يصيح ويقول عن نفسه: منجم، ومفسر للمنامات، ويكتب الرقى والطلسمات.
فدعاه أبو شجاع، وقال له: رأيت في منامي كأنني أبول، فخرج من ذكري نار عظيمة استطالت وعلت، حتى كادت تبلغ السماء، ثم صارت ثلاث شعب، وتفرع عن كل شعبة عدة شعب، فأضاءت الدنيا بتلك النيران، ورأيت البلاد والعباد خاضعين لها.
فقال المنجم: هذا منام عظيم لا أفسره إلا بخلعة.
فقال له أبو شجاع: واللّه لا أملك إلا الثياب التي على جسدي، فإن أخذتها بقيت عرياناً.
قال المنجم: فعشرة دنانير.
قال أبو شجاع: واللّه لا أملك ديناراً واحداً.
قال المنجم: اعلم أنه يكون لك ثلاثة أولاد يملكون الأرض ومن عليها، ويعلو ذكرهم في الآفاق، كما علت تلك النار، ويولد لهم ملوك بقدر ما رأيت من تلك الشعَب.
فقال أبو شجاع: أما تستحي تسخر منا؟ أنا رجل فقير، وأولادي هؤلاء فقراء مساكين، فكيف يصيرون ملوكاً؟
قال المنجم: أخبرني بوقت ميلادهم، فلما أخبره جعل يحسب، ثم قبض على يد أبي الحسن علي فقبلها، وقال: هذا واللّه الذي يملك البلاد، ثم هذا من بعده، وقبض على يد أخيه أبي علي الحسن. فاغتاظ منه أبو شجاع، وقال لأولاده اصفعوه، فقد أفرط في السخرية بنا، فصفعوه، وهو يستغيث.
ثم قال لهم المنجم: اذكروا لي هذا إذا قصدتكم، وأنتم ملوك، فضحكوا منه، واستخفوا به. ولم تمض الأيام، حتى تحققت نبوءة المنجم بكاملها، وذلك أن أبا شجاع اضطر لفقره أن يُدخل أولاده الثلاثة في الخدمة العسكرية جنوداً مرتزقة، ولكن سرعان ما ارتقوا بدهائهم ومهارتهم إلى مرتبة القواد وأمراء الجيش، وأخذوا يستميلون الناس بحسن المعاملة، ويكسبون محبة الضباط بالمال، فقويت شوكتهم، وانتشر صيتهم، ولما اطمأنوا إلى قوتهم خرجوا عن طاعة الحاكم الذي يعملون بأمره، وكان اسمه «مرداويج» واستقلوا عنه.


علي بن بويه عماد الدولة
وأول من ملك من البويهيين علي بن بويه، أكبر أولاد أبي شجاع، وكان يلقب بعماد الدولة، وكان ابتداء سلطانه في شيراز عام 321 هجري، ثم امتد إلى إيران والعراق، وغيرها من بلاد بني العباس.
قال آدم متز في الجزء الأول من «الحضارة الإسلامية» ص 35 وما بعدها طبعة ثالثة:
كان سبب ارتفاع علي بن بويه سماحته وشجاعته، وسعة صدره، وحسن سياسته، فمن ذلك أنه استمال الحسين بن محمد الملقب بالعميد. ولاطف قواد مرداويج، وأفضل عليهم، حتى أوجبوا طاعته، وكان ذا فضل يتسامع به الناس، فيميلون إليه، فلا عجب إذن أن يسهل عليه الانتصار، على جيش الخليفة، حتى استولى على جنوب إيران، وكان بنو بويه إلى جانب هذا يحسنون معاملة الأسرى، ويعفون عنهم، ويؤمنونهم من جميع ما يكرهون، حتى يطمئنوا إليهم، على حين كان أعداؤهم يعدون للأسرى قيوداً وبرانس ليشهروهم بها، ولقد ظفر علي بن بويه بأعداء له، معهم هذه الآلات، فعدل عن العقاب إلى العفو، وابتعد عن الطغيان. وهو الذي يرجع إليه الفضل فيما بلغه بيت بني بويه من قوة وعزة.
وقال ابن الأثير في حوادث 322: حين استولى علي على شيراز نادى في الناس الأمان، وبث العدل. وقد ساعده الحظ في أمور، منها أن الجند طلبوا أرزاقهم منه، ولم يكن عنده ما يعطيهم، فكاد ينحل أمره، فقعد في غرفة دار الإمارة بشيراز، يفكر في أمره، وأصابه غم شديد، فبينما هو مستلقٍ على ظهره، وقد خلا للفكر والتدبير إذ رأى حية، قد خرجت من موضع في سقف الغرفة، ودخلت في ثقب، فخاف أن تسقط عليه، فدعا الفراشين، ففتحوا الموضع، فرأوا وراءه باباً، فدخلوه إلى غرفة أخرى، فوجدوا فيها عشرة صناديق مملوءة مالاً ومصاغاً، فأنفقه في رجاله، وثبت ملكه بعد أن أشرف أمره على الانحلال.
وأراد ذات يوم أن يفصل ثياباً، فدلوه على خياط لياقوت حاكم شيراز الأسبق، فحضر الخياط خائفاً، وكان أصم، فقال له عماد الدولة: لا تخف إنما أحضرناك، لتفصل لنا ثياباً، فلم يفهم ما قال، وحلف الخياط بالطلاق، والبراءة من دين الإسلام أن الصناديق التي أودعها عنده ياقوت ما فتحها، وما أخذ شيئاً منها، فتعجب عماد الدولة من ذلك، وأمره بإحضار الصناديق، فأحضرها، وكانت ثمانية صناديق، فيها مال وثياب.

وفي هامش ابن الأثير ج 6 ص 333 طبعة 1353 هجري «توفي بشيراز عن سبع وخمسين سنة، ولم يكن له ولد ذكر، وكانت مدة ملكه ست عشرة سنة، وكان من خيار الملوك في زمانه، وممن حاز قصب السبق دون أقرانه».


ركن الدولة ومعز الدولة:
قال ابن الأثير: كان عماد الدولة أمير الأمراء، فلما مات صار أخوه ركن الدولة أمير الأمراء.
أما أخوهما الأصغر أحمد الملقب بمعز الدولة فقد كان أمير العراق منذ عهد أخيه علي عماد الدولة، وكان هو المستولي على الخلافة، قال السيد مير علي في «مختصر تاريخ العرب» ص 260 طبعة سنة 1938:
«لم يلبث معز الدولة أن اضطر الخليفة إلى أن يقلده السلطة، كما نقش اسمه على العملة، وذكر اسمه مقروناً باسم الخليفة في خطبة الجمعة، وكان موقفه من الخليفة كموقف تشارل مارتيل من ملوك فرنسا، إذ كان هو الحاكم الحقيقي، وكان الخليفة لا حول له، ولا قوة، مجرداً من كل سلطة، وليس له من الشؤون غير قبض المخصصات، وقدرها خمسة آلاف دينار من خزينة الدولة، وكان معز الدولة محباً للفنون والعلم. وهو الذي جعل اليوم العاشر من المحرم يوم حزن لذكرى موقعة كربلاء.
وفي حاشية ابن الأثير ج 2 ص 315 طبعة 1353 هجري «أن معز الدولة عزم على عزل الخليفة العباسي، ومبايعة محمد بن يحيى الزيدي العلوي، فمنعه الصيمري من ذلك».
وتوفي معز الدولة في ملك أخيه ركن الدولة سنة 356، قال ابن الأثير: «وفي هذه السنة ابتدأ معز الدولة في بناء المارستان، وأرصد له أوقافاً جزيلة، وأظهر التوبة، وتصدق بأكثر أمواله، وأعتق مماليكه، ورد شيئاً كثيراً على أصحابه، وكانت إمارته 21 سنة و11 شهراً ويومين، وكان حليماً كريماً عاقلاً».
أما اخوة ركن الدولة الحسن بن بويه فدامت إمارته أربعاً وأربعين سنة، وزاد عمره على السبعين، وقال آدم متز في «الحضارة الإسلامية» ج 1 ص 38:
أما ركن الدولة فقد كان حليماً واسع الكرم، حسن السياسة لرعاياه وجنده، رؤوفاً بهم، بعيد الهمة، يتحرج من الظلم، ويمنع أصحابه منه، وقد أثنى المؤرخون على عدله وكرمه.
وقال ابن الأثير: كان ركن الدولة حليماً كثير البذل، بعيد الهمة، متحرجاً من الظلم، عفيفاً عن الدماء يرى حقنها واجباً إلا فيما لا بد منه، وكان يجري الأرزاق على أهل البيوتات، ويصونهم عن التبذل، وكان يقصد المساجد الجامعة، ويتعهد العلويين بالأموال الكثيرة، ويتصدق بالأموال الجليلة، ويلين جانبه للخاص والعام. رضي اللّه عنه وأرضاه، وكان له حسن عهد، ومودة وإقبال، توفي سنة 366 هجري. واستخلف على ممالكه ابنه عضد الدولة.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد