من التاريخ

دَولَة البويهيّين (3)


سلطان الدولة:
ولما ملك سلطان الدولة ولى أخاه أبا طاهر الملقب بجلال الدولة البصرة، وأخاه الثاني أبا الفوارس بلاد كرمان، وأخاه الثالث مشرف الدولة العراق، وأقام هو في شيراز.
وبعد أمد خرج عليه أخوه أبو الفوارس، وأراد انتزاع الملك منه، ولكن سلطان الدولة تغلب عليه، وعفا عنه، وأيضاً خلعه أخوه مشرف الدولة، وأزال ملكه عن العراق، وخاطبه الناس بشاهنشاه، وانضم إليه أخوه جلال الدولة، وكان ذلك سنة 411، وفي سنة 413 اتفقا، وحلف كل منهما للآخر على أن تكون العراق لمشرف الدولة، وفارس لسلطان الدولة.
وفي سنة 415 مات سلطان الدولة، فتولى بعده ابنه أبو كاليجار، ودارت حروب بينه وبين عمه أبي الفوارس انتهت بالصلح ببقاء العراق بيد مشرف الدولة دون منازع، وفارس لأبي كاليجار.
وفي سنة 416 مات مشرف الدولة وتولى بعده على العراق أخوه جلال الدولة. قال ابن الأثير: كان مشرف الدولة كثير الخير، قليل الشر، عادلاً، حسن السيرة.


جلال الدولة:
قال صاحب «النجوم الزاهرة» في الجزء الخامس: كان جلال الدولة ملكاً محباً للرعية حسن السيرة، وكان يحب الصالحين، ولقي من الأتراك في سلطنته شدائد.
وقال ابن الأثير في حوادث 429:
في هذه السنة سأل جلال الدولة القائم بأمر اللّه أن يخاطبه الناس بملك الملوك، فقال له: نستفتي بذلك الفقهاء، فأفتى بالجواز أبو الطيب الطبري، والصيمري، وابن البيضاوي، والكرخي، وامتنع أبو الحسن الماوردي، ولقب جلال الدولة بملك الملوك، وقد جرى بين الماوردي وبين الفقهاء الذين أفتوا بالجواز نقاش وجدال، هذا، وإن الماوردي أخص الناس بجلال الدولة وأقربهم منزلة منه، ولكنه آثر دينه على هوى الملوك، ولما أفتى بالتحريم وعدم الجواز انقطع عن جلال الدولة، ولزم بيته خائفاً، وفي ذات يوم استدعاه جلال الدولة، فلبى، وهو موقن بالذبح، ولما دخل عليه أكرمه وعظمه، وقال له فيما قال: إني أعلم بأنك ما قلت وما فعلت إلا لمرضاة اللّه والحق، وقد بان لي موضعك من الدين، ومكانك من العلم، وإنك أعز لدي من الجميع.
وهذا شاهد صدق على عدل جلال الدولة وإنصافه، وتواضعه للحق.
ومات جلال الدولة سنة 435 . قال ابن الأثير في حوادث هذه السنة:
«كان مولده سنة 383، وملكه ببغداد 16 سنة و 11 شهراً . ومن علم سيرته، وضعفه، واستيلاء الجند والنواب عليه، ودوام ملكه إلى هذه الغاية علم أن اللّه على كل شيء قدير، يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، وكان يزور الصالحين، وزار مرة مشهد علي وولده الحسين (ع)، وكان يمشي حافياً قبل أن يصل إلى كل مشهد منهما نحو فرسخ، يفعل ذلك تديناً».


أبو كاليجار:
وتولى بعد جلال الدولة أبو كاليجار بن سلطان الدولة، ووقعت الحرب بينه وبين طغرلبك السلجوقي، ثم تم الصلح بينهما، واستقرت الحال، وتزوج طغرلبك ابنة أبي كاليجار، وتزوج ابن أبي كاليجار بابنة أخ طغرلبك.
وفي سنة 446 مات أبو كاليجار، وكان عمره 40 سنة وشهوراً، ودام ملكه على العراق 4 سنوات وشهرين ونيفاً وعشرين يوماً.


الملك الرحيم:
وتولى بعد أبي كاليجار ولده أبو نصر الملقب بالملك الرحيم، ولكن لم تطل أيامه، فقد دخل طغرلبك بغداد سنة 447 واستولى عليها، وقبض على الملك الرحيم، وسجنه في إحدى القلاع، وانتهى به ملك البويهيين الذي امتد من سنة
321 هجري إلى سنة 447 . والسبب الأول لانهيار دولتهم وزوالها على أيدي السلجوقيين شغلهم بالحروب الخارجية والداخلية، بخاصة بين أمراء البيت البويهي بعضهم مع بعض حول الملك.
هذا ملخص تاريخ ملوك بني نويه، وقد أشرنا في مطاوي الحديث عنهم إلى اهتمامهم بالعلوم والآداب، ونعطف على ما قدمناه ما جاء في كتاب «مختصر تاريخ العرب» للسيد مير علي ص 262 طبعة 1938:
«لقد شجع البويهيون الروح الأدبية في البلاد، وعضدوا مدرسة بغداد التي كان قد اضمحل شأنها في أثناء تدهور الخلافة. وحفروا الجداول وهيأوها إلى الملاحة، حتى مدينة شيراز، فأزالوا بذلك خطر الفيضانات الدورية التي كانت تغمر المناطق، كما شيد عز الدولة مستشفى فخماً، وفتح عدة كليات في بغداد».
وجاء في كتاب «الأدب في ظل بني بويه» للغناوي ص 127 طبعة 949: «امتاز عهد آل بويه بالخصب العلمي والأدبي بتأثيرهم الخاص، أو بتأثير وزرائهم، ذلك أنهم استوزروا أبرع الكتاب وأبرزهم، واعتمدوا عليهم في تدبير شؤون الحرب وأمور السياسة والإدارة والمال جميعاً، فلمعت اسماؤهم، وعظمت هيبتهم، وطار صيتهم في الآفاق، فقصدهم أهل العلم والأدب، فأفادوا منهم كثيراً، وأنتجوا كثيراً في ميدان الأدب والفلسفة والعلم، فكان أثرهم في الحياة الفكرية قوياً جداً ربما فاق أثر أسيادهم، أي الخلفاء العباسيين».
أما مناصرتهم لمذهب التشيع فقد ذهبوا فيه إلى أقصى حد، وكان الغالب في بغداد عاصمة الدولة مذهب التسنن قبل البويهيين، وبعدهم نما فيها مذهب التشيع، وانتشر. قال ابن الأثير في حوادث سنة 352:
«في هذه السنة أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم في عاشر المحرم، ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، ويظهروا النياحة على الحسين، ففعل الناس ذلك، ولم يكن للسنة قدرة على المنع منة لكثرة الشيعة، ولأن السلطان منهم. وفي ثامن عشر ذي الحجة أمر معز الدولة بإطهار الزينة بالبلد، وأشعلت النيران بمجلس الشرطة، وفتحت الأسواق ليلاً، كما يفعل في ليالي الأعياد كل ذلك فرحاً بعيد الغدير».


وقال في حوادث سنة 389:
إن أهل السنة عملوا يوم 26 من ذي الحجة زينة عظيمة، وفرحاً شديداً، وقالوا: هذا يوم دخول النبي وأبي بكر إلى الغار، فعملوا ذلك مقابل يوم الغدير. وكذلك عملوا في 18 المحرم مثل ما يعمل الشيعة يوم عاشوراء، وقالوا: هو يوم قتل فيه مصعب بن الزبير.
وما اقتصر آل بويه في خدمة التشيع على مظاهر الفرح يوم الغدير، وشعائر الحزن يوم عاشوراء، بل كانوا يبذلون جهدهم في خدمة أهل البيت بشتى الوسائل، وكانوا يحترمون علماء الشيعة بجميع طرق الاحترام من التبجيل والعناية، وبذل الأموال الكثيرة، وقد كان عضد الدولة يركب في موكبه العظيم، لزيارة الشيخ المفيد.
كما أن آل بويه أسكنوا الشيعة في المشاهد المقدسة، وخصصوا لهم الرواتب. وأقاموا الأبنية الضخمة، وعليها القباب الرفيعة لتلك الأضرحة الكريمة، حتى أن عضد الدولة أقام في المشهد العلوي هو وجنده قريباً من سنة، ليشرف على تعمير القبر الشريف بنفسه، وبنى حوله الدور والرباطات، وأجزل للعلويين العطاء، وللمجاورين، والخدمة، وأوجد القناة المعروفة بقناة آل بويه، وفعل مثل ذلك في المشهد الحسيني بكربلاء، ومن المؤرخين من اعتراف بانتشار التشيع في عهد البويهيين، وتكثر الشيعة في دولتهم.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد