من التاريخ

دَولَة الفَاطِميّين (2)

 

الجامع الأزهر ومذهب التشيع:
وفي سنة 358 وضع جوهر أساس مدينة القاهرة التي لا تزال إلى اليوم، وبعد إكمالها اتخذها عاصمة للدولة الجديدة. ورأى جوهر أن لا يفاجئ السنيين في مساجدهم بشعائر المذهب الشيعي، خشية أن يثير حفيظتهم، فبنى الجامع الأزهر، وعقدت فيه حلقات الدرس، وكانت تركز اهتمامها على نشر المذهب الشيعي بين الناس.
ومنع جوهر من لبس السواد شعار العباسيين، وزاد في الخطبة: «اللهم صل على محمد المصطفى، وعلى علي المرتضي، وفاطمة البتول، والحسن والحسين سبطي الرسول» كما أمر أن يؤذن في جميع المساجد بحي على خير العمل، واستمرت شعائر التشيع، والتدريس في الأزهر على المذهب الشيعي، حتى جاء صلاح الدين الأيوبي، فقضى على الخلافة الفاطمية، ومذهب التشيع، وكل ما يمت إليه بصلة.


توجه المعز إلى مصر:
ولما أيقن المعز أن دعائم ملكه توطدت في مصر والشام سار إليها من إفريقيا بأهله وأمواله في ركب هائل، فوصل الإسكندرية سنة 362، فخف أكابر المصريين إلى لقائه وتحيته، وانتقل منها إلى القاهرة عاصمته الجديدة، واستقرت الخلافة الفاطمية بمصر، وامتد سلطانها من أواسط المغرب إلى شمال الشام، ولكن لم يمض إلا القليل حتى زحف القرامطة إلى الشام، وانتزعوها من يد نائب الخليفة الفاطمي، ثم توجهوا إلى مصر بقيادة زعيمهم الحسن الأصم، والتقت جيوش المعز بالغزاة على مقربة من بلبيس في أواخر سنة 363، وأوقعت بهم هزيمة فادحة.
ومات المعز سنة 365 بيد أنه لم يغادر هذه الحياة، حتى كانت الخلافة الفاطمية تبسط سلطانها وإمامتها على المغرب ومصر والشام، حتى حلب والحرمين. وقال ابن الأثير: «كان المعز عالماً فاضلاً، جواداً شجاعاً، جارياً على منهاج أبيه من حسن السيرة، وإنصاف الرعية». 
وخلف المعز ولده أبو منصور نزار الملقب بالعزيز باللّه.


العزيز باللّه:
وفي أوائل عهد العزيز استولى القرامطة على الشام، وزحفوا على مصر مرة أخرى، فسار إليهم العزيز بنفسه، وقاتلهم قتالاً شديداً، وهزمهم. وعني العزيز عناية خاصة بالشام وشؤونها، واختار لولايتها غلامه بنجوتكين التركي، وبعد أن نظم أمورها أمره بالمسير إلى حلب، فسار إليها، وأميرها يومئذ أبو الفضل بن حمدان حفيد سيف الدولة، وكان بنو حمدان حيثما رأوا توغل الفاطميين في الشام تحالفوا مع باسيل الثاني إمبراطور قسطنطينية، ولما زحف الجيش الفاطمي إلى حلب أمدهم باسيل بالجيوش ونشبت معركة بين الجيشين هزم فيها البيزنطيون، وأسر قائدهم، وعندها سار باسيل بنفسه في جيش تقدره الرواة بمائة ألف، لزم الفاطميون خطة الدفاع.
وفي عهد العزيز اشتدت حركة الإنشاء والتعمير، فأنشئت وجددت في أيامه صروح ومنشآت عديدة، منها قصر الذهب بالقاهرة، وجامع القرافة، وجامع القاهره الذي أتمه ولده الحاكم، وبستان سردوس، وقصور عين شمس، ودار الصناعة، وقنطرة الخليج. 
وعني العزيز كأبيه المعز بنشر المذهب الشيعي، وحتّم على القضاء أن يصدروا أحكامهم وفق هذا المذهب، كما قصر المناصب الهامة على الشيعيين، وأصبح لزاماً على الموظفين السنّيين الذين تقلدوا بعض المناصب الصغيرة أن يسيروا طبقاً لأحكام المذهب الإسماعيلي.
وكان العزير جواداً ومدبراً، فقد أذن لصاحب بيت المال أن يقدم القروض للموظفين الصغار من مال العزيز الخاص على أن لا يطالب من عجز عن الوفاء ولا يعاقب من يستطيع الوفاء ولا يفعل. وفي عهده اتسع نطاق الدعوة الفاطمية اتساعاً عظيماً، ودعي للخليفة الفاطمي في الموصل واليمن. وانكمشت الدعوة العباسية في حدود ضيقة، وتضاءل سلطانها الروحي، كما تضاءل سلطانها السياسي.


الحاكم بأمر اللّه:
حين بويع الحاكم بالخلافة كان له من العمر 11 سنة. فتولى الوصاية عليه مربيه وأستاذه برجوان الخادم، وبعد أن أتم الخامسة عشرة من عمره استقل بالحكم، وقتل برجوان، لأنه كان يضايقه ويسيء معاملته حين الوصاية عليه.
وقسم الدكتور حسن إبراهيم في كتاب «تاريخ الدولة الفاطمية» أدوار خلافة الحاكم إلى أربعة:
1 - من سنة 386 إلى سنة 390 ، وكان في هذه المدة لا يملك من أمر السلطان شيئاً لصغره.
2 - من سنة 390 إلى سنة 395 ، وفيها كان للحاكم على حداثة سنه سلطة كبيرة، أظهر فيها تعصباً شديداً للمذهب الفاطمي.
3 - من سنة 396 إلى سنة 401 ، وفي هذه المدة، ترك سياسة التعصب، وتبع سياسة التسامح مع جميع الطوائف.
4 - من سنة 401 إلى سنة 411 ، ظهرت سياسته في هذه الفترة بمظهر القلق والتذبذب، ورغم ذلك، فقد ساعدت سياسته على إقرار الأمن، وقضت على الفوضى التي كانت سائدة في أوائل عهده، وأنشأ الحاكم دار الحكمة التي كان يشتغل بها كثير من القراء والفقهاء والمنجمين والنحاة واللغويين، وألحق بها مكتبة، أطلق عليها اسم دار العلم، حوت كثيراً من أمهات الكتب ونفائسها.
وقال عنان في كتاب «الحاكم بأمر اللّه» ص 103 طبعة ثانية:

«كان الحاكم بأمر اللّه حاكماً حقيقياً، يقبض على السلطة بيديه القويتين، ويشرف بنفسه على مصاير هذه الدولة العظيمة، ويبدي في تدبير شؤونها نشاطاً مدهشاً، فيباشر الأمور في معظم الأحيان بنفسه، ويتولى النظر والتدبير مع وزرائه، وهكذا كان الأمير اليافع يؤثر العمل المضني على مجالي اللهو واللعب التي يغمر تيارها من كان في سنه، وفي مركزه وظروفه.
وقد لزم الحاكم هذا النشاط المضني طوال حياته، وكان ذا بنية قوية متينة، مبسوط الجسم، مهيب الطلعة، له عينان كبيرتان سوداوان، تمازجهما زرقة، ونظرات حادة مروعة، كنظرات الأسد، لا يستطيع الإنسان صبراً عليها، وله صوت قوي مرعب، يحمل الروع إلى سامعيه، ويقول الإنطاكي: ولكن كان جماعة يقصدونه لأمور تضطرهم إلى ذلك، فإذا أشرف عليهم سقطوا وجلاً منه، وفحموا عن خطابه».
وقتل الحاكم سنة 411، وتولى بعده الخلافة ابنه أبو هاشم الملقب بالظاهر، واختلف في سبب قتله، فمن قائل: إن أخته ست الملك دبرت اغتياله، ومن قائل: إنه خرج في بعض الليالي كعادته راكباً حماراً، ولم يعد. ويعتقد الدروز أن الحاكم اختفى، وأنه سيعود إذا زالت المفاسد المنتشرة في العالم، فهو الإمام المنتظر عند هذه الطائفة. (تاريخ الدولة القاطمية لحسن إبراهيم حسن ص 168 طبعة ثانية).
وبالتالي، فقد كان عصر الحاكم مليئاً بالأعمال والمآثر الجليلة فقد جدد الأزهر، وأجرى عليه وعلى دار الحكمة الأوقاف الجزيلة، وأنشأ جامعاً في القاهرة، وآخر بالاسكندرية، وأحصى المساجد، ورتب للمؤذنين والأئمة الأرزاق، وأغدق العطايا والمنح للعلماء والأساتذة.
وفي سنة 404 أعتق كل ما يملك من الرقيق، وكانوا جمعاً غفيراً، ووهبهم الأموال والأملاك ليعتاشوا بها، وكان نصير العلم والآداب، فقد أخرج كل ما في القصر من خزائن الكتب، ووضعها في متناول العلماء والطلاب، لينتفعوا بها، وكان يعقد في قصره مجالس للعلماء يتدارسون ويتناقشون في حضرته، ويجزل لهم الجوائز والصلات، ونال العلماء الكبار وأهل الاختصاص لديه حظوة كبيرة، وألف له أبو الحسن الفلكي معجماً ضخماً في الفلك يعرف بالزيج الكبير، كما استدعى المهندس الشهير ابن الهيثم، لما بلغه من براعته وتفننه، وعهد إليه بفحص أحوال النيل، وما يمكن أن يعمل للانتفاع بمائه.
وكان يميل إلى تخفيف الضرائب عن كاهل الشعب، وحدد الأسعار، وضرب كثيراً من الباعة، وشهر بهم لمخالفتهم التعريفة الرسمية، وأصلح المكاييل والموازين وضبطها، وأجمع المؤرخون على تقشفه وزهده في المظاهر العامة في حياته، واحتقاره للرسوم والألقاب والمواكب الفخمة التي امتاز بها الخلفاء الفاطميون، إلى غير ذلك.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد