من التاريخ

الإمام الجواد عليه السلام في كلام الإمام الخامنئي دام ظلّه (2)


الإمام عليه السلام وصغر سنه:
وهي من الظواهر الإعجازية التي وجدت مع الإمام الجواد عليه السلام والتي كان لها أثرها الكبير على واقع الحكام انذاك.
وقد أجمعت المصادر التاريخية أن الإمام الجواد توفي أبوه الرضا عليه السلام وعمره "ثماني سنين أو سبع سنين وأربعة أشهر"6، وتولى الإمامة بعد أبيه وهو في سن الطفولة. 
هذه الظاهرة تواجدت لأول مرة في حياة أئمة عليهم السلام في شخص الإمام الجواد عليه السلام وكان تحدياً صارخاً للحكام المنحرفين ورهاناً أكيداً وإعجازياً على حقيقة امتداد خط إمامة ومرجعية أئمة عليهم السلام الذي يمثله الإمام الجواد عليه السلام. 
ولو اعتمدنا حساب الاحتمالات لوجدنا أن صغر سن الإمام عليه السلام وحده سبباً كافياً للاقتناع بحقيقة إمامته وتمثيله لخط إمامة أهل البيت، وإلا كيف نفسر توليه للزعامة الشيعية في كل المجالات النظرية والعملية. 
ولربما يتبادر افتراض يقول أن الطائفة الإسلامية الشيعية ربما لم ينكشف لديها بوضوح إمامة وزعامة هذا الصبي لأهل البيت، ولربما زادوا هذا الافتراض زعماً آخر كما جاء على لسان الباحث أحمد أمين "باختفاء الأئمة عن الأعين، واكتفائهم بالدعوة سراً، ليبقى العطف عليهم في الناس"7. 


وردنا على هذا الإفتراض والزعم، هو أن زعامة الإمام الجواد عليه السلام كانت زعامة مكشوفة وعلنية أمام كل الجماهير ولم تكن زعامة أئمة أهل البيت في يوم ما زعامة محاطة بالشرطة أو الجيش وأبهة الملك والسلطان، بحيث تحجب الزعيم عن رعيته ولم تكن زعامتهم عليه السلام زعامة دعوة سرية من قبيل الدعوات الصوفية والفاطمية، كي تحجب بين قائد الدعوة وبين قواعده الشعبية، بل كان إمام عليهم السلام يمارس زعامة مكشوفة إلى حد ما، وكانت القواعد الشعبية المؤمنة بزعامته وإمامته تتفاعل معه مباشرة في مسائلها الدينية وقضاياها الاجتماعية والأخلاقية. 
ولما استقدمه المأمون إلى مركز خلافته بغداد أصر الجواد عليه السلام على الاستئذان والرجوع إلى المدينة، وقد سمح له المأمون بذلك، وقد قضى أكثر عمره الشريف هناك8. 
فالجواد عليه السلام كان يتحرك بفاعلية ونشاط على المسرح الاجتماعي وهو مكشوف أمام كل المسلمين بما فيهم الشيعة الذين يؤمنون بزعامته وإمامته. 
حتى أن المعتصم تضايق من نشاطه وتحركه، فطلبه وأحضره إلى بغداد، ولما حضر أبو جعفر عليه السلام إلى العراق لم يزل المعتصم وجعفر بن المأمون يدبرون ويعملون الحيلة في قتله ويقول المفيد: "فورد بغداد لليلتين بقيتا من المحرم سنة 220 هجرية وتوفي بها في ذي القعدة من هذه السنة". 
وفي روضة الواعظين "مات ببغداد قتيلاً مسموماً"9.
وعلى ضوء هذه الحقائق تسقط دعوى الفرض الذي يقول بأن الجواد عليه السلام لم تكن زعامته مكشوفة أمام المسلمين عامة وأمام شيعته خاصة، خلافاً لطبيعة العلاقة التي نشأت منذ البداية بين قادة أهل البيت وقواعدهم الشعبية وخصوصاً أن المأمون قد سلط الأضواء على إمامة الجواد وعلمه، فقد عرّضه إلى امتحان من أجل إفحامه وفض الناس عنه وجمع بينه وبين كبار العلماء أمام العباسيين فتبين تفوق الجواد عليه السلام العلمي والفكري على صغر سنه10. 
وقد طلب المأمون من يحيى بن أكثم، وهو من كبار المفكرين انذاك أن يطرح على الإمام مسألة يقطعه فيها.


فقال له: أتأذن لي جعلت فداك في مسألة. 
فقال له أبو جعفر: سل إن شئت.
قال يحيى: ما تقول في محرم قتل صيداً؟ 
فقال له الإمام عليه السلام: "قتله في حلّ‏ٍ أو حَرَم؟ عالماً كان المحرم أم جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حراً كان أم عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أم معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد كان أم من كباره؟ مصراً على ما فعل أم نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد أم نهاره؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً؟". 
فتحير يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع وتلجلج حتى عرف أهل المجلس أمره11. 
وهناك افتراضات أخرى ربما تثار في هذا المجال نعرضها على التوالي: 
الافتراض الأول الذي يقول: إن المستوى العلمي والفكري للطائفة الشيعية وقتئذٍ كان بدرجة يمكن معها أن يغفلوا هذا الموضوع، أو بشكل آخر إن مستواهم الفكري والعقلي والروحي هو الذي دفعهم إلى التصديق والإيمان بإمامة طفل وهو ليس بإمامٍ حقاً!. 
وهذا الفرض ساقط، يكذبه الواقع التاريخي الثابت للطائفة الشيعية إذ أن مستواها العلمي والفقهي كان موضع إكبار وتقدير من قبل كل المدارس الفكرية المنافسة الأخرى.
فالمدرسة الفكرية الضخمة التي خلفتها جهود الإمامين الباقر والصادق عليه السلام كانت من أكبر مدارس الفكر الإسلامي التي شهدها العالم الإسلامي آنذاك، فهناك جيلان قد تعاقبا وهم من تلاميذ الصادق والكاظم عليه السلام وكانا على رأس الطائفة الشيعية في ميادين الفقه والتفسير والكلام والحديث وكل جوانب المعرفة الإسلامية.


وعلى ضوء هذه الحقيقة، لا يمكن الافتراض أبداً بأن المستوى الفكري والعلمي للطائفة كان بالمقدار الذي يغفل موضوعاً مهماً وخطيراً كهذا فكيف تغفل طائفة بكاملها وفيها هذه المدرسة التي كانت تعد قبلة للفكر الإسلامي المنفتح وتتخيل أو تتصور غفلة أن الإمامة في شخص طفل صغير وهو ليس بإمامٍ حقاً. 
وخصوصاً وكما قدمنا أن إمامة الجواد وزعامته لقواعده الشعبية كانت زعامة مكشوفة لكل المسلمين وبإمكان أي فرد منهم أن يتحداها، ويمتحن صدقها، وخصوصاً الطائفة الشيعية التي كانت تمثلها في العالم الإسلامي أكبر المدارس الفكرية وأضخمها على الإطلاق، فقد امتدت مدرستها في الكوفة وقم والمدينة، وكانت هذه المدارس والمراكز الفكرية على صلة بالإمام عليه السلام تستفتيه وتسأله، وتنقل إليه الحقوق والأموال من مختلف الأطراف، فكيف نتصور أن هذه العقلية المنفتحة أو مثل هذه المدرسة الضخمة تغفل عن حقيقة طفل لا يكون إماماً.
الافتراض الثاني: إن الطائفة الشيعية عبر تاريخها المديد لم تكن تملك تصوراً واضحاً لمفهوم الإمام والإمامة بل كانت تتصور الإمام مجرد رقم في تسلسل نسبي فهي بالتالي تجهل الإمام والشروط اللازمة للإمامة! 
نقول إن هذا الافتراض مردود لأن التشيع كأساس يقوم على المفهوم الإلهي العميق لفكرة الإمامة من أبده وأبسط مفاهيم التشيع، فالإمام في مفهومه الشيعي العام هو ذلك الإنسان الفذ بمعارفه وأقواله وأعماله وأخلاقه. 
وهذا المفهوم وهو ما كان واضحاً في معالمه وأبعاده عند الطائفة الشيعية، قد بشرت به آلاف النصوص التي توالت منذ عهد الإمام علي عليه السلام إلى عهد الإمام الرضا عليه السلام، حتى أن كل تفاصيل وخصوصيات التشيع أصبحت واضحة في أذهان الشيعة ووعيهم. 


تقول إحدى الروايات بهذا الصدد "دخلنا المدينة بعد وفاة الرضا عليه السلام نسأل عن الخليفة بعد الإمام الرضا فقيل إن الخليفة في قرية قريبة من المدينة، فخرجت إلى تلك القرية فدخلتها، وكان فيها بيت للإمام موسى بن جعفر عليه السلام انتقل إلى الإمام الجواد عليه السلام بالوراثة فرأيت البيت غاصاً بالناس ورأيت أحد أخوة الرضا عليه السلام جالساً متصدراً المجلس، وسمع الناس يقولون عنه أي أخ الرضا عليه السلام بأنه ليس هو الإمام الرضا، لأنهم سمعوا من الأئمة عليه السلام: "أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين عليه السلام"12. 
ونستنتج من هذا الحديث، أن كل تفاصيل وخصوصيات التشيع ومفاهيمه كانت واضحة وجلية عندهم، مما يكذب زعم أصحاب هذا الافتراض.
الافتراض الثالث والأخير: إن الأمر لا يعدو كونه تفانياً وإصراراً على الغرور والباطل من قبل طائفة الشيعة ومحبيه.
ونقول إن هذه الدعوى باطلة، ليس فقط من وجهة إيماننا بورع الطائفة الشيعية وقدسيتها، وإنما نؤكد القول من خلال تلك الظروف الموضوعية التي أحاطت بهذه الطائفة المضطهدة، إذ أنه لم يكن التشيع في يوم من الأيام في حياة هذه الطائفة المؤمنة طريقاً للأمجاد والسلطان أو الإثراء بل كان التشيع على مدار التاريخ طريقاً إلى التعذيب والحرمان والسجون والاضطهاد، بل وكان طريقاً لأن يعيش معها إنسان الطائفة، حياة خوف وتضحية ومراقبة دائمة في كل خطوة يخطوها. 
يقول الإمام الباقر عليه السلام عن تلك المحن والبلايا التي نزلت بالشيعة وخاصة أيام الحكم الأموي: "وقتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة والتهمة وكل من يذكر بحبنا أو الإنقطاع إلينا سجن أو نهب ماله وهدمت داره"13. 
فافتراض التفاني والإصرار على الباطل، لم يكن في أي وقت من الأوقات من أجل مطمح مادي أو دنيوي.
ولماذا بعد ذلك كل هذا التفاني والإصرار من قبل علماء وفقهاء الطائفة، على إمامة باطلة زائفة، مع أن تفانيهم للإمام عليه السلام سيكلفهم ألواناً قاسية من الحرمان والعذاب. 
لذلك لا يمكننا تفسير تفاني الشيعة على الإمامة، إلا أن يكون ذلك ناشئاً عن اعتقاد حقيقي بهذه الإمامة ووعي عميق لشروط انعقادها.
ومن هنا يجب القول أن كل هذه الافتراضات لا يمكن قبولها لمن اطلع على حقيقة تاريخ هذه الطائفة وظروفها الموضوعية، وبالخصوص الظروف والملابسات التي أحاطت بإمامة الجواد عليه السلام. 
بعد عرض هذه الافتراضات وردها، لا يبقى لدينا إلا الفرض الوحيد المطابق للواقع وهو كون الجواد عليه السلام هو الإمام حقاً.

ـــــــــــ
6- نفس المصدر السابق، ص‏92.
7- المهدي والمهدوية، ص‏62 61. 
8- الموسوعة، ج‏2، ص‏92.
9- نقلاً عن دائرة المعارف، ص‏92.
10- نفس المصدر نقلاً عن الإرشاد للمفيد.
11- تذكرة الخواص، ص‏372 368 وراجع للتفصيل تحف العقول عن ال الرسول ابن صغبة، ص‏335.
12- البحار، ج‏50، ص‏90.
13- شرح النهج، ج‏3، ص‏15، لابن أبي حديد.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة