قرآنيات

قصة خلق الإنسان

 

السيد موسى الصدر
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ألم* ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين* الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون* والذين يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون﴾ [البقرة، 1-4]
صدق الله العلي العظيم
هذه الآيات المباركة، في بداية القرآن الكريم، تحاول أن تضع خطة عامة للهداية الإلهية من خلال رسالة الإسلام. وتؤكد الخط الذي يقترح الإسلام سلوكه على الإنسان المسلم. هذه الخطة تعتمد على النقاط الخمس:
الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والإنفاق مما رزقهم الله والإيمان برسالة "محمد" وبرسالة الأنبياء الذين سبقوا "محمدًا" عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، والنقطة الخامسة الإيمان بالمعاد والحساب والآخرة.
أما النقطة الأولى: الإيمان بالغيب، فهي ضرورية في حياة الإنسان، فالإنسان عندما يعيش حياته المادية، ونحن نعلم أن كل شيء في العالم المادي نسبي ومتغير، والتغير من طبيعته عدم الاستقرار، والإنسان يحتاج في حياته إلى الاستقرار، العلم مثلًا في تكامل دائم، والتكامل تغير بطبيعة الحال، فإذا اعتمد الإنسان في حياته على العلم، وآمن بالعلم، واستند إلى العلم دون سواه يشعر كلما يتحرك العلم يشعر هو أيضًا بالتحرك والتزلزل، فلا يمكنه أن يعتمد ويثق إلى شيء واحد. حيث إن ما اكتشف حول هذا الشيء في هذا اليوم، قد لا يكون صحيحًا في غد. وما لا يكون صحيحًا في هذا اليوم قد يصبح صحيحًا في غد. فلا يمكنه أن يثق بشيء ثقة مطلقة، ولا يمكنه أن يرفض شيئًا رفضًا مطلقًا.
وهكذا الصناعة والتكنولوجيا والتنظيمات البشرية، بل وهكذا الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والقوانين الوضعية كلها، حيث إنها من إنتاج الفكر البشري بما في ذلك الفلسفة وكل أفكار الإنسان. وإنتاج الفكر الإنساني والتجارب الإنسانية، كل هذه الأشياء متكاملة، فهي متغيرة ومتزلزلة ولا يمكن أن تكون سندًا وثقة وتطمينًا للإنسان في حياته. فالإنسان يحتاج حاجة ملحة إلى الاتصال بشيء ثابت، حتى يستقر وحتى ينطلق في حياته فيحرك الحياة.


لا نقول إن الإنسان يحتاج إلى جمود وسكون، بل نقول: الإنسان يحتاج إلى أن يعتمد أساسًا ثابتًا ثم يستعمل العلم وسائر الإنتاجات البشرية استعمالًا متطورًا. فكما لا يمكن للعلم والصناعة والأنظمة المتنوعة أن تقوم مقام الإيمان بالله، لا يمكن أيضًا للإيمان بالله المطلق أن يقوم مقام العلم والصناعة والعلاج والأنظمة. فالإنسان يبدأ في حياته من نقطة ثابتة، أما النقاط المتغيرة فهي تبدأ من الإنسان، لا أن الإنسان يبدأ منها. ففقدان الإيمان بالغيب في حياة الإنسان يكوّن له قلقًا دائمًا، يقول القرآن الكريم: ﴿ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾ [الرعد، 28]. وهكذا نجد أن الإنسان عندما يفقد الإيمان بالغيب يشعر بالقلق، خاصة عندما يكثر التطور، ويتسرع في التكامل، يزداد قلقًا كل يوم أكثر من يوم آخر. وفي عصرنا هذا حيث تشتد سرعة التطور، يحتاج الإنسان إلى الإيمان بالمطلق بصورة أقوى وأشد.
هذا في الأساس، أما في الفصول وفي النتائج، فنحن نعتقد أن الإيمان بالقيم وبالمطلقات، الإيمان بالصدق، الإيمان بالوفاء، الإيمان بالعدل، الإيمان بكل قيمة لا يمكن أن ينفصل عن الإيمان بالغيب. فإذا كان الإحساس البشري معزولًا عن الإيمان بالغيب، لا يمكن أن يدرك الإيمان بالقيم وبالمثل المطلقة.
وهنا المحنة الكبرى. عندما يفقد الإنسان الإيمان بالقيم المطلقة، فلن تكون هناك صداقة ولا عداوة، ولا صدق ولا حق، بل هناك المصلحة، وهناك الأنانية. فيصبح كل إنسان إلهًا في زعمه، غريبًا في حياته، منفصلًا عن بني نوعه، شريكًا معهم في المصالح؛ فيتحول العالم إلى شركات لا إلى وحدات، وهذا هو الانفصال العميق بين أبناء المجتمع بعضهم مع بعض، وبين الأجيال المتتالية البشرية بعضها مع بعض، فالإيمان بالغيب ميزة الدين، وضروري في حياة الإنسان.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد