مقالات

العبادة (2)

 

الشهيد مرتضى مطهري
علي (ع) وروح العبادة
إن الإسلام اهتمَّ كثيراً بالعبادة، وبروح العبودية الحقيقة، أي الارتباط بين الإنسان وربه، وحب الله، والانقطاع إلى ذاته ـ وهي أكمل العبادات ـ والحديثان أو الثلاثة التي ذكرتها كانت نماذج، وإلا فالأحاديث كثيرة بهذا الصدد. وقد سمعنا قول أمير المؤمنين المعروف "إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك".
دعاء كميل بأكمله هو هذا القول بمعنى أوسع. فلا نرى في هذا الدعاء ذكراً للجنة والنار، وإن ذكرنا فإنه استطراد لمناسبة وبحث آخر. الأدعية الإسلامية على اختلاف مستوياتها تتمتع بمضامين جيدة. منها الدعاء المذكور في المفاتيح واسمه "المناجاة الشعبانية". يذكر أن أمير المؤمنين (ع) والأئمة من ولده كانوا يقرأون هذا الدعاء. فهو دعاء بمستوى الأئمة (ع)، فعندما يقرأ الإنسان هذا الدعاء يفهم معنى العبادة في الإسلام، فلا يوجد هناك إلا العرفان والحب والعشق لله، والانقطاع إليه وفيه تمام المعنوية: "إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تحرق أبصار القلوب حجب النور سواك فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلقة بعز نورك الأبهج فأكون لك عارفاً وعن سواك منحرفاً".
فتصور هذه المعاني وفهمها صعب علينا. وهكذا دعاء أبي حمزة. والمناجاة الخمس عشرة للإمام زين العابدين (ع) وقد ذكرت في المفاتيح، منها: مناجاة الخائفين، مناجاة الذاكرين، ومناجاة الطالبين و... وإنها لرائعة وعالية المضمون، بحيث انها تحير الإنسان وتذهله. ففي نهج البلاغة كثير من الأحاديث بهذا الشأن.


فمن كلماته (ع) التي يخاطب بها كميلاً: إن الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم، وهمج رعاع، ثم يقول الإمام: إن لي كلاماً طويلاً لا أجد من يصغي إليه. فيقسم الأفراد ويقول: إن بعضهم أذكياء جداً وهم يفهمون، ولكن لا يمكن الاعتماد عليهم؛ لأنهم يجعلون ذلك وسيلة لمطامعهم الدنيوية. والبعض الآخر أناس طيبون لكنهم همج يفقهون؛ فلمن أقول كلامي؟ عليّ أن آخذ ما أعلمه إلى القبر معي، فلا أجد من هو أهل له. ثم لأجل أن لا يخيب الجميع يقول: "اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهراً مشهوراً وإما خائفاً مغموراً... ويزرعوها في قلوب اشباههم". ثم يقول عن هؤلاء: "هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة" يظهر أن هذا العلم هو ما أفيض عليهم وليس العلم المكتسب، "وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون" .
  الإنسان المسلم أم الإنسان الاجتماعي
نبين أولاً ان هذه المعاني الرفيعة بالمصطلح العرفاني، بسبب تفسيرها بصورة غير صحيحة للناس، اعتبرت هي وأصولها قراراً من المجتمع، واستدل على ذلك بأدلة ضعيفة وهي أن الأفراد عندما ييأسون من المجتمع يلجأون إلى باطنهم وإلى تخيلاتهم دائماً. وليس الأمر كذلك. إننا نعتقد بأن كثيراً من الناس انحرفوا في هذا المجال، ويحتمل أن يكون هذا حجة لفرارهم من المسؤولية الاجتماعية؛ لكن المسلم إنسان اجتماعي. علينا أن نتخذ الإمام علياً (ع) قدوة ونموذجاً لنا دائماً، فهو الذي يعتكف ويختلي بالله خلوة عرفانية، ونراه من جانب آخر مهتماً بالمسؤوليات الاجتماعية إلى حد كبير؛ والإنسان الذي يريده الإسلام هو هكذا.


وقصدي من ذلك أن لا ينتقل ذهنكم إلى معنى آخر في هذا الشأن، فتنكرون هذا الجانب أو تقولون لو كان الأمر كذلك إذاً لا توجد مسؤوليات إجتماعية. كلا، الإنسان المسلم إنسان اجتماعي أيضاً. وهذا هو أحد أبعاد الوجود الإنساني. إننا لا نعرف الإنسان بأنه موجود ذو بعد واحد وذلك البعد هو هذا! ويقول العارفون: الإنسان الناقص، وهو الإنسان الذي لم يصل عرفانه إلى الكمال بعد، لابد للمسلم أن ينقطع عن غير الله تماماً، ولكنه حينما يصل إلى هناك تنتابه حالة العودة والرجوع. فعند ذلك يعود ويقوم بوظائفه ومسؤولياته، وإلا فلو ذهب الإنسان إلى هناك ولم يرجع، فهو ناقص غير متكامل.
فاتهام الإسلام بأنه لا يهتم بروح العبادة ليس صحيحاً، بل اهتم كثيراً بها بحيث لو أردنا جمع موارد اهتمامه لاحتجنا بحث طويل.

مراتب العبادة الدانية
والآن نتكلم على عبادة الطمع بالجنة أو الخوف من النار. هل إن هذه العبادة لا قيمة لها واقعاً؟ وهل هي كما قالوا شره كبير؟ أو طمع عظيم؟ وأسوأ من حب الدنيا بمائة مرة؟ كلا، فلا يصح تخطئتها بهذا الشكل. لا شك في أنه ليس للعبادة من أجل الجنة أو الخوف من النار قيمة كما للعبادات التي ذكرناها، لكنها ليست دون قيمة وأهمية. بل إنها تعتبر درجة عالية لبعض الناس؛ لأن هناك فرقاً بين من يقوم بعمل لأجل الطمع مباشرة وبين من يجعل الله واسطة للقيام بذلك العمل. كأن الإنسان يسعى مرة وراء المال مباشرة؛ فهذا عاشق المال مئة بالمئة؛ ومرة أخرى يريد المال من الله تعالى، يذهب إلى الله ويطلب منه المال. وهذا يختلف كثيراً عمن يقطع روابطه مع الله كلياً ويسعى وراء المال مباشرة، فذلك يختار طريقه هكذا بأن يقول: إن لله أوامر، فأنا أعمل طبقاً لأوامره وأطلب منه أن يعطينا مالاً. وهذه مرتبة من مراتب عبادة الله، واللجوء إليه تعالى، ولو لأجل المال؛ ولكنه يختلف عن عدم الذهاب والالتجاء إلى الله كلياً. فالتوجه إلى الله واللجوء إليه لأجله فقط له أهمية عظمى، واللجوء إليه لأجل شيء، وطلبه منه هو توجه ولجوء أيضاً، يضيء قلب الإنسان إلى حدٍّ ما، ويجعل فيه صفاء فيغفل عن غير الله ويتوجه إليه تعالى؛ وهذه مرتبة للعبادة من أنها مرتبة دانية. ولهذا فلا يمكن نفي صفة العبادة عن هذا التوجه. وبما أن جميع الناس ليسوا على درجة ومستوى واحد وعالٍ، فلو أردنا تربية أكثر الناس بحيث نصلح نظام حياتهم الدنيوية وتقربهم إلى الله أيضاً فعلينا أن نبتدئ بهذا الطريق. أو على الأقل تدخل الأفرد من هذا الطريق أولاً ثم ترفعهم إلى مراتب أعلى. وهذا هو سبب اهتمام القرآن الكثير بالأمور المادية وأيضاً يوجد في القرآن (ورضوان من الله أكبر) (سورة التوبة، الآية: 72). فعندما يذكر: (جنات تجري من تحتها الأنهار) ثم بعد ذلك يقول: (ورضوان من الله أكبر) أي أن الذي يعبد الله لأجل رضوانه، فهو شيء آخر ولكن متبعي (ورضوان من الله أكبر) ليس جميع الناس بل حتى ليس نصفهم. وإنما هو مجموعة قليلة وصلت إلى مراتب راقية فقط. فالطريق العملي لغالبية الناس هو أن نذكر لهم الجنان التي فهيا لذات مادية. طبعاً يذكر القرآن ذلك لتربية الناس فقط؛ فإن القرآن يقول ليس في كلامنا باطل وكذب حتى لو كان ذلك الكذب نافعاً والعياذ بالله لكي يصح توهم البعض أن القرآن قال ذلك ليجبر الإنسان على عمل الخير، فإن له هدفاً حسناً، ولأجل تحقيق هذا الهدف الصحيح يمكن التحدث والتكلم بأي نوع من الكلام (لا يأتيه الباطل من بين يديه) (سورة فصلت، الآية: 42). كلا، إن كلام القرآن حول لذات الجنة المادية والجسمية هو أمر حقيقي. فلا يتعدى أغلب الناس عن حد الجسم والشهوات الجسمية ولهذا فإنهم نشأوا هكذا نشأة. أما الذين يرتفعون إلى حد أعلى، فإنهم يذهبون إلى نشأة أعلى رتبة من الجنة الجسمانية المادية.

 

أثر العبادة في التربية

نستنتج مما ذكر أن الإنسان لو أراد أن يربي نفسه وأولاده أو الآخرين تربية إسلامية. فعليه أن يهتم بمسألة العبادة حقاً. وأن العبادة بغض النظر عن أنها تربي في الإنسان إحساساً وشعوراً أصيلاً، فإن لها تأثيراً كبيراً في سائر اتجاهات الإنسان. ولهذا يوصي العظماء دائماً. مهما كان لك من الأعمال. عليك أن تخصص ساعة في اليوم والليلة لنفسك. يمكن أن يقال: ليست كل ساعاتي هي لي، فكل أوقاتي هي لخدمة الآخرين لا، حتى لو كانت جميع ساعات الإنسان موقوفة لخدمة خلق الله، ففي الوقت ذاته وغير مستغن عن تخصيص ساعة لنفسه، وتلك الساعات التي لغيره، مع أنها مفيدة وضرورية، لا يمكنها أن تحل محلها وتملأ فراغها. وأن الساعة الواحدة هي الحد الأدنى؛ فعلى الإنسان أن يضع ساعة أو أكثر من اليوم والليلة لنفسه فعلاً. أي يعود إلى نفسه في تلك اللحظات. فيقطعها عن الخارج ويعود إلى باطنه وإلى ربه يتضرع ويناجي ويستغفر. فمعنى الاستغفار هو محاسبة النفس، ينظر في أنه ماذا فعل في هذه الأربع والعشرين ساعة؟ فيظهر له أن عمله الفلاني كان حسناً. فيشكر الله تعالى؛ وليته لم يفعل العمل الفلاني، فيصمم على تركه وعدم العودة إليه، ويستغفر الله تعالى. وكم اهتم القرآن بمسألة الاستغفار، ينقل في وصف أصحاب الرسول (ص) "رهبان الليل وأسد النهار". ويقول القرآن: (الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار) (سورة آل عمران، الآية: 17). انظروا كيف يبين القرآن جميع الجوانب؟! فليس كمثل الصوفي لموط الذي يتحدث عن الاستغفار والعبادة فقط. "الصابرين" فأينما يذكرهم القرآن يذكر معهم الحروب، في الحقيقة إن "الصابرين" تعني المتحملين والصبورين عند الحرب "والصادقين" هم الذين لم ينحرفوا عن الصدق قدر شعرة "والقانتين" أي الذين يقنتون لله بخضوع قلبي، ويحتمل أن يكون معناها حسب ما جاء في آية أخرى: (قوموا لله قانتين) (سورة البقرة، الآية: 238). هو أنهم في تلك الحالة لا يكلمون أحد سوى الله، ويقطعون ارتباطهم بغيره (والمنفقين والمستغفرين بالأسحار) كل هذا يجب توفره إلى جانب تلك الأعمال دائماً.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد