المترجم: عدنان أحمد الحاجي
في اللحظة التي يموت فيها أي كائن حي، يبدأ حمضه النووي بالتحلل. عمر النصف للحمض النووي (حيث يتحلل نصفه) هو 521 عامًا في المتوسط، ويفنى تمامًا بعد حوالي 6.8 مليون سنة، حتى في ظل ظروف حفظ مثالية، كما في البيئات باردة والمستقرة.
وهذا يمثل صعوبة كبيرة أمام محاولة فهم تاريخنا التطوري فهمًا معمقًا: فقد ظهرت الرئيسيات ثنائية الأرجل قبل 7 ملايين سنة في أفريقيا، وظهر جنس الهومو (ومنه الإنسان الحديث) (1) قبل حوالي 2.6 مليون سنة. لكن الحمض النووي تحلل بسرعة في الأماكن التي جابها قدماء أسلافنا. ونتيجة لذلك، فإن العديد من التكيفات الرئيسة [مورفولوجية، أو فسيولوجية، أو سلوكية] (2) التي جعلتنا بشرًا فريدًا من نوعه تعود إلى فترة كان فيها الحمض النووي القديم طلسمًا لا يمكن قراءته أو فك رموزه.
لكن تقنية جديدة أتاحت لنا دراسة ما هو أبعد من تاريخ انتهاء صلاحية (فناء أو عدم بقاء أي أثر لـ) الحمض النووي في أفريقيا، للإجابة على أسئلة طالما بقيت بلا اجابة عن أسلافنا. يُطلق على هذا العلم اسم علم مجموعة البروتينات القديمة للخلايا (بروتيوم) (3، 4) وهو دراسة البروتينات القديمة (5) التي تبقى لفترة أطول من بقاء الحمض النووي. ذكرت كريستينا وارينر Christina Warinner، باحثة علم الآثار الجزيئية الحيوية في جامعة هارفارد، وزملاؤها في ورقة بحثية نشرت عام 2022: "البروتينات جزيئات حيوية معمرة وقادرة على البقاء على قيد الحياة لملايين السنين". يُشفّر (يحفظ) الحمض النووي التعليمات اللازمة لتكوين الأحماض الأمينية، التي تتحد في سلاسل طويلة لتكوين البروتينات. ولأن البروتينات تتحلل ببطء أكثر من الحمض النووي، فإنها تُصبح موردًا قيّمًا جدًّا لفهم التطور البشري.
علماء الآثار وثورة الحمض النووي
شهد اهتمام علماء الآثار بالحمض النووي القديم ارتفاعًا حادًّا منذ عام 2010، عندما نشر باحثون مسودة لجينوم الـ (نياندرتال) (إنسان بدائي) (6)، مؤكدين أن الـ (نياندرتال) تزاوج مع أسلاف الكثير من البشر من معاصريه. ومنذ 2010، استُخدمت هذه التقنية للإجابة على عدد من الأسئلة المتعلقة بالآثار، مثل متى تم استيطان الأمريكيتين (7) وأستراليا (8)، ومتى بدأت الزراعة (9)، وكيف انتشرت اللغات والثقافات (10).
إلا أن هناك نقاط ضعف رئيسة في الاعتماد فقط على الحمض النووي القديم (11). فبالرغم من أن تقنيات استخراج الحمض النووي من العظام القديمة جدًّا قد تطورت بشكل كبير بمر السنين، إلا أن الحمض النووي يتحلل إلى جزئيات صغيرة جدًّا على مدى آلاف السنين بسبب تأثير نور الشمس والحرارة والرطوبة. ونتيجة لذلك، فإن تحليل الحمض النووي لعظام وأسنان القدماء محدود زمنيًّا [وذلك بسبب تحلل الـ DNA السريع نسبيًّا على مدى بضعة آلاف من السنين]، ما لا يجعلنا متمكنين من معرفة الكثير عن تطورنا القديم جدًّا من خلال استخدام هذه التقنية.
هذه مشكلة تتعقد أكثر في أفريقيا، حيث جرت أحداث معظم التطور البشري هناك.
صرح آدم فان أرسديل Adam Van Arsdale، باحث في الأنثروبولوجيا الحيوية في كلية ويلسلي Wellesley، لموقع لايڤ ساينس Live Science: "أفريقيا هي مركز ماضينا التطوري، وليس لدينا في أفريقيا حمض نووي قديم يتجاوز عمره الـ 20 ألف سنة تقريبًا في تلك الفترة" (12). وأضاف أن معرفة ما حدث مع أسلافنا القدامى من الناحية البيولوجية قبل ملايين السنين في قلب أفريقيا من شأنه أن يُحدث تغييرًا في فهمنا للتطور البشري.
ثورة في تحليل البروتينات
تُعدّ البروتينات هدفًا مثيرًا لعلماء الأنثروبولوجيا لأنها تدوم حتى عمر أطول من أقدم حمض نووي (13). فهي تحتوي على عدد ذرات أقل، وعدد روابط كيميائية أقل، وبنية أقل حجمًا، ما يعني أنها أقل هشاشة [أكثر قوة ووتيرة تحللها أبطأ بكثير] من الحمض النووي، وفقًا لوارينر وزملائه.
استُخرج أول بروتيوم قديم (4 ، 14) - وهو مجموعة من البروتينات المُخلقة (15) في خلية أو نسيج أو كائن حي - من عظمة ماموث صوفي (16) عمرها 43 ألف سنة في دراسة نُشرت عام 2012. في عام 2019، أعلن الباحثون عن أقدم بروتيوم من كائن ثديي قديم: من سن قديم عمره 1.9 مليون عام من قرد منقرض هو القردة الضخمة المعروفة بـ (جيجانتوبيثيكوس) (17، 18). وفي عام 2025، نجح الباحثون في استخراج أقدم البروتينات حتى حينه، من إبيسيرثيريوم Epiaceratherium، وهو مخلوق منقرض (19) يشبه وحيد القرن عاش في القطب الشمالي الكندي منذ أكثر من 21 مليون سنة.
بعد تحسيننا لأساليب وطرق التحليل والتعرف على البروتينات، بدأ باحثو علم الأنثروبولوجيا في استخدام هذه الطرق للإجابة على أسئلة بشأن التطور البشري.
في دراسة (20، 21) نُشرت عام 2020 في مجلة Nature، حلل الباحثون البروتينات الموجودة في مينا أسنان سلف إنسان (22)، وهو شبيه بشري منقرض عاش في أوروبا قبل 800 ألف سنة. واكتشفوا أن بروتينات سلف إنسان تختلف عن بروتينات الإنسان العاقل (23) والنياندرتال (6) وإنسان دينيسوفا (24)، ما يجعله فرعًا منفصلاً من شجرة التطور البشري وليس بكونه سلفنا المباشر.
في دراسة (25) نُشرت في أبريل، 2025 في مجلة العلوم Science، استُخدم التحليل البروتيومي أيضًا لمعرفة أن عظم الفك الذي عُثر عليه أول مرة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين قبالة سواحل تايوان (26) له علاقة بإنسان دينيسوفا، وهي مجموعة غامضة من أقارب البشر المنقرضين. قبل ذلك، لم يكن باحثو علم الأنثروبولوجيا القديمة يعرفون ما إذا كان إنسان دينيسوفا (24) قد عاش في ذلك الجانب من العالم. كما أثبت التحليل أنه من الممكن التعرف على البروتينات الموجودة في المتحجرات من المناطق الدافئة والرطبة.
جذورنا الأفريقية
قد يكون تحليل البروتينات القديمة من أكثر العوامل التي أحدثت نقلة في فك رموز تطورنا القديم جدًّا. وأبرزت دراستان حديثتان أُجريتا على عظام وأسنان متحجرة من أفريقيا إمكانات هذه الطريقة التحليلية، حيث الدراسات، التي استخدمت الحمض النووي، تكاد أن تكون مستحيلة [وذلك بسب تحلل الـ DNA السريع نسبيًّا].
في الدراسة الأولى، التي نشرت في مايو، 2025 في مجلة ساينس (27)، اكتشف علماء الآثار بروتينات قديمة من أسنان أربعة أفراد من جنس بارانثروبوس روبستوس (الإنسان النظير) (28، 29)، وهو قريب للإنسان عاش في فترة قبل 1.8 مليون إلى 1.2 مليون سنة. وأثبتت الدراسة أن الأفراد كانوا ذكرين واثنتين من الإناث. لكن المثير للدهشة أن الباحثين اكتشفوا أن أحد أفراد بارانثروبوس روبستوس، الذي كان يُعتقد أنه ذكر، كان في الواقع أنثى. يشير هذا إلى أن بعض الجماجم التي صُنفت سابقًا على أنها جنس واحد من نوع معروف ربما كانت في الواقع تنتمي إلى مجموعات مجهولة أو أنواع جديدة.
في الدراسة الثانية، التي نُشرت في فبراير، 2025، في مجلة العلوم الجنوب أفريقية (30)، استخرج الباحثون البروتيوم من مينا أسنان أسترالوبيثكس أفريكانوس (31)، الذي عاش في جنوب أفريقيا قبل 3.5 مليون سنة. ورغم أنهم لم يتمكنوا إلا من تحديد الجنس البيولوجي للأسترالوبيثيسينات (32 - 34)، إلا أن الباحثين كتبوا أن "هذه كلها إنجازات مثيرة جدًّا، ومن شأنها أن تُحدث ثورة في فهمنا للتطور البشري".
وصرحت ريبيكا أكرمان Rebecca Ackermann، باحثة في علم الأنثروبولوجيا البيولوجية في جامعة كيب تاون، لموقع لايف ساينس، بأن أحد الأسئلة التي قد يُسهم هذا التحليل في الإجابة عليها هو ما إذا كان ذكور وإناث أسلاف البشر وأقاربهم يختلفون اختلافًا كبيرًا في الحجم أو السمات. على سبيل المثال، قد يكشف تحليل البروتين والجنس أن بعض العظام التي فُسِّرت سابقًا على أنها ذكور وإناث من نفس النوع (35) كانت في الواقع لأفراد من نفس الجنس [ذكور أو إناث]، ولكن من أسلاف (36) مختلفين.
حتى الآن، نجح الباحثون في تحليل بروتينات من عدد بسيط من أسلاف البشر القدماء. وبينما يحتوي جسم الإنسان الحديث على أكثر من 100 ألف بروتين، فإن "بروتيوم" مينا الأسنان صغير الحجم؛ حيث يتكون من خمسة بروتينات رئيسة لها علاقة بتكوين مينا الأسنان. ومع ذلك، فإن التباين في تسلسل البروتينات كافٍ للتمييز بين الكائنات الحية التي لها سلف مشترك.
آفاق المستقبل
قالت أكرمان إن تحليل التباينات في تلك البروتينات لا يُقدم على الأرجح حلاً كافيًا للإجابة على أسئلة رئيسة، مثل مدى ارتباط أسلاف البشر القدماء بأقاربهم الأقربين [إنسان نياندرتال وإنسان دينسوفا]. على سبيل المثال، قبل ملايين السنين في شرق إفريقيا، تعايشت عدة أنواع من الرئيسيات ثنائية الأرجل بجنب بعضها البعض عبر الزمن (37)، ولكن ما إذا كانت هذه الأنواع المختلفة قادرة على التزاوج والتناسل وإنتاج هجين خصب [أي قادر على التناسل] (38) ليس واضحًا من خلال تحليل العظام وحده.
هل يمكن للبروتينات القديمة أن تُساعد في نهاية المطاف على الإجابة على هذا السؤال؟
أكرمان متفائلة، ولكنها كانت حذرة بأن تكنولوجيا علم البروتينات القديمة ستتقدم لتوضيح العلاقات التطورية بين الأنواع التي لها سلف مشترك.
وأضافت أكرمان أن بروتيومات العظام والمينا قد تفتقد إلى تفاصيل كافية للتمييز بين الأفراد الذين لهم سلف مشترك بنفس قدرة الجينومات على التمييز.
وأضافت أكرمان أن هناك فرصة لتطور التقنيات بما يكفي ليتمكن العلماء من استخراج البروتينات من أنسجة عمرها ملايين السنين.
وكتبت وارينر وزملاؤها أن معظم البروتينات التي يخلّقها البشر، بما في ذلك تلك التي تُشكل جزءًا من "البروتيوم المظلم [المجهول التركيب والذي ليس له بنية ثلاثية الأبعاد محددة (39)]"، العصي على التحليل، ما يعني أننا لا نعرف الكثير عن وظيفته.
وكتبوا: "ستحمل السنوات العشرون القادمة بالتأكيد الكثير من المفاجآت مع بدء تطبيق هذه القوة التحليلية للإجابة على أسئلة قديمة عن الماضي وابتكار حلول جديدة للمشكلات القديمة".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- https://ar.wikipedia.org/wiki/بشراني_(جنس)
2- https://ar.wikipedia.org/wiki/تكيف
3- https://en.wikipedia.org/wiki/Ancient_protein
4- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/بروتيوم
5- https://pubs.acs.org/doi/10.1021/acs.chemrev.1c00703
6- https://ar.wikipedia.org/wiki/نياندرتال
7- https://www.livescience.com/how-did-humans-first-reach-the-americas
9- http://https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S009286742200455X
11- http://https://en.wikipedia.org/wiki/Ancient_DNA
12- http://https://www.nature.com/articles/s41586-022-04430-9
13- https://www.nature.com/articles/s41580-024-00803-2
14- https://pubs.acs.org/doi/10.1021/pr200721u
15- http://https://almerja.com/more.php?idm=123872
16- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/ماموث_صوفي
17- https://www.nature.com/articles/s41586-019-1728-8
18- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/جيغانتوبيثيكوس
19- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/باراسيراثيريم
20- https://www.livescience.com/oldest-human-ancestor-dna-homo-antecessor.html
21- http://https://www.nature.com/articles/s41586-020-2153-8
22- https://ar.wikipedia.org/wiki/إنسان_سلف
23- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/إنسان
24- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/إنسان_دينيسوفا
25- http://https://www.science.org/doi/10.1126/science.ads3888
27- https://www.science.org/doi/10.1126/science.adt9539
29- https://ar.wikipedia.org/wiki/أناسي_نظير
31- https://sajs.co.za/article/view/18571
32- https://ar.wikipedia.org/wiki/قرد_جنوبي_إفريقي
33- https://ar.wikipedia.org/wiki/قردة_جنوبية
35- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/نوع_(تصنيف)
36- https://ar.wikipedia.org/wiki/أحدث_سلف_مشترك
38- https://ar.wikipedia.org/wiki/تهجين_(أحياء)
39- https://en.wikipedia.org/wiki/Dark_proteome
المصدر الرئيس
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ مرتضى الباشا
عدنان الحاجي
حيدر حب الله
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ شفيق جرادي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد صنقور
الشيخ حسين الخشن
السيد عباس نور الدين
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
ناجي حرابة
عبدالله طاهر المعيبد
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ
وكونوا مع الصادقين
محدودية صلاحية الحمض النووي والبديل في اكتشاف أسرار التاريخ
الدعاء مظهر العبودية لله تعالى
لقب ماسيّ للفوتوغرافي الخميس كأوّل عربيّ يحصل عليه
وإنّما خلقنا في الدّنيا لنبتلى فيها!
التغيير المجتمعي، مراحله ومعالمه وأدبيّاته: مطالعة في ضوء القرآن الكريم (5)
الرّكب الحسينيّ في المدينة المنوّرة (2)
قراءة في كتاب (العدل الإلهي) للشهيد مطهري
العبادة والتّعلّم