الشيخ جوادي آملي
إنّ معارف القرآن الكريم هي الرزق المعنويّ للناس، والرزق المعنويّ كالرزق المادّي تدريجي. وقد شبَّه القرآن الكريم في مقام التمثيل تدريجيّة الرزق بنطق الإنسان، فقال تعالىٰ: ﴿وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ٭ فَوَرَبِّ السَّماءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُون﴾.[1] والمقصود من التمثيل بالنطق في هذه الآية الكريمة ليس هو التمثيل بالأمر البديهي، وإلاّ لذكر أمراً أشدّ بديهيّة من النطق، بل انّ المقصود هو تدريجيّة النطق، ففي النطق تظهر الكلمات والجمل من خزانة العقل ومكمن غيب الإنسان بنحو تدريجيّ. ومعارف الدين أيضاً بهذا النحو سواء كانت في عصر واحد أو عصور متعدّدة؛ فالرزق المشترك لجميع الناس هو الإسلام الّذي هو روح جميع الأديان التوحيديّة والإلٰهيّة: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَم﴾[2]، وأمّا الرزق الخاصّ في كلّ عصر فهو الشريعة والمنهاج: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاج﴾.[3] والمعرفة الدينيّة في كلّ عصر أيضاً تُفاض علىٰ الناس بالتدريج بتوفير مقدّماتها والأسباب الممهّدة لنزولها، ومن المقدّمات الممهّدة لتلقّي المعرفة الدينيّة هي الأسئلة والشبهات الجديدة.
وانّ مهمّة علماء الدين في الوقت الحاضر هو أن يطّلعوا تماماً علىٰ ما يجري في الأوساط العلميّة في عالم اليوم حتّىٰ لايقعوا في الالتباس أو المغالطة عند استظهارهم من آيات القرآن وكذلك أثناء استنباطهم من روايات العترة الطاهرين: «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»[4].
وأسئلة الناس في العصور السابقة مهّدت لنزول رزق المعرفة في تلك العصور، ونحن أيضاً يجب علينا أن نقدّر الجهد العلميّ للماضين وأن ننظر إليهم بعين الاحترام، وعلىٰ الرغم من أنّ ما ذكروه من بحوث يمكن أن لا يكون من قضايانا المعاصرة أو لا يكون مقبولاً عندنا؛ ولكنّ هذا لا يعني أنّ جميع تلك المعارف كانت باطلةً في وقتها، فكما أنّ الإنسان الكبير لا يميل إلىٰ لبن الأمّ ويعافه، في حين أنّه كان في دور الرضاعة والطفولة يتغذّىٰ علىٰ هذا اللبن بعينه ولولاه لما نما وترعرع وبلغ هذا المبلغ من العمر. وعلىٰ هذا الأساس فإنّه يمكن أن تكون المعارف العميقة في عصرنا الحاضر بالنسبة إلىٰ الأجيال القادمة مثل لبن الأمّ بالنسبة إلىٰ الكبار غير مستساغة لديهم، ولكن هذا اللبن نفسه كان ذات يوم ضروريّاً ولذيذاً.
والأسئلة والشبهات الجديدة في عصرنا الحاضر تستدعي عودة ثانية إلىٰ القرآن من أجل تفسيره بنحو يتضمّن الجواب علىٰ الأسئلة والإشكالات المعاصرة، لأنّ التفاسير السابقة قد كتبت في فضاء خال من هذه الأسئلة، مثلاً إحدىٰ الشبهات الّتي يثيرها في هذا العصر أصحاب مذهب (السكولاريسم أو العلمانيّين الّذين يقولون بفصل الدين عن السياسة) في ميدان المعرفة الدينيّة هي أنّ فعل الأنبياء (عليهم السلام) في مجال السياسة والأمور المعيشيّة والاجتماعيّة للبشر ليس بحجّة، لأنّ الدين مسؤول فقط عن تبيين المعارف العقائديّة والأخلاق الإلٰهيّة والفقه وتنظيم أمر آخرة الناس، وأمّا شؤون دنيا الناس كالحكومة والأمور المعيشيّة فهي خارجة عن دائرة التشريع الدينيّ. وانّما تدخّل الأنبياء (عليهم السلام) في مثل هذه الأمور لأنّهم أفراد يخالفون الظلم ويحبّون الحريّة والعدالة، لا من حيث أنّهم رسل الله وحاملون للوحي الإلٰهيّ. وعليه فإنّ سيرة وسُنَّة الأنبياء (عليهم السلام) في غير الأمور العباديّة والأخلاقيّة والأخرويّة ليست حجّةً للأمم، ولا يجب اتّباعهم علىٰ الأفراد العقلاء القادرين بأنفسهم علىٰ التفكير والتخطيط.
وهنا إذا بحثنا في القرآن الكريم بهذه النظرة وهي هل أنّ القرآن الكريم قد تحدّث عن سنّة وسيرة الأنبياء (عليهم السلام) في الشؤون الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة علىٰ نحو السرد التاريخيّ المحض أم أنّه قد ذكرها لبيان السنن الإلٰهيّة لأجل الاتّباع والعمل، فسوف نرىٰ أنّ آيات كثيرة في القرآن تدحض زعم العلمانيّين الباطل وتنفيه، كما في الأمر بشدّ وثاق أسرىٰ الحرب:﴿... فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَ﴾[5] أو في جواب من اقترح أخذ الفدية لأجل تقوية بيت المال حيث نهىٰ عن ذلك وقال بأنّ الأرض يجب أن ترتوي من دماء الأرجاس، وقبل ذلك لا يحقّ لكم أخذ الفدية: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيم﴾.[6]
كما أنّ نزول الكتاب السماويّ مقدّمة لإخراج الناس من الظلمات إلىٰ النور، والنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) يوصف بأنّه العامل والواسطة في هذا التغيير الإلٰهيّ: ﴿... كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد﴾[7]، ومن الواضح أنّ إخراج الناس من الظلمات وتنويرهم لا يتمّ إلاّ بإزالة شرّ الظالمين وإنقاذ المظلومين؛ كما يذكر جهاد النبيّ موسى(عليه السلام) مع البلاط الفرعونيّ كمثال لتنوير المجتمع وإخراجه من جميع ألوان الظلمة.
وعلىٰ هذا فإنّ مخالفة الظلم واجتثاث الحكومات الطاغوتيّة وإقامة الحكومة الإلٰهيّة جزء من رسالة أنبياء الله (عليهم السلام)، وليست جزءًا من النشاطات التحرريّة الّتي يقوم بها القادة الإصلاحيّون الّذين كانوا يقومون بها بصفة أنّهم بشر وليس بصفة أنّهم أنبياء.
ـــــــــــ
[1] . سورة الذاريات، الآيتان 22 و23.
[2] . سورة آل عمران، الآية 19.
[3] . سورة المائدة، الآية 48.
[4] . البحار، ج75، ص269.
[5] . سورة محمّد، الآية 4.
[6] . سورة الأنفال، الآية 67.
[7] . سورة ابراهيم، الآية 1.
الشيخ محمد جواد مغنية
محمود حيدر
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد عباس نور الدين
عدنان الحاجي
السيد عبد الأعلى السبزواري
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ علي رضا بناهيان
الفيض الكاشاني
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا
ماهية الميتايزيقا البَعدية وهويتها*
الرؤية القرآنية عن الحرب في ضوء النظام التكويني (1)
انتظار المخلّص بين الحقيقة والخرافة
تلازم بين المشروبات المحلّاة صناعيًّا أو بالسّكّر وبين خطر الإصابة بمرض الكلى المزمن
أسرار الحبّ للشّومري في برّ سنابس
الميثاق الأخلاقي للأسرة، محاضرة لآل إبراهيم في مجلس الزّهراء الثّقافيّ
الشيخ عبد الكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (9)
البسملة
لماذا لا يقبل الله الأعمال إلا بالولاية؟