قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطهراني
عن الكاتب :
عُرف بين الناس باسم العلامة الطهراني، عارف وفيلسوف، ومؤلف موسوعي، من مؤلفاته: دورة المعارف، ودورة العلوم، توفي عن عمر يناهز الواحد والسبعين من العمر، سنة 1416 هـ.

منطق القرآن هو التوحيد الخالص (2)

قصّة الفضيل بن عِياض

نقل صاحب كتاب «سفينة البحار» قصّة الفُضَيل بن عِياض[1] وكيف أنّ آية قرآنيّة واحدة استقرّت في أعماق وجوده وشغلت روحه، بحيث قامت بمحو برنامج سنين متمادية من القتل والنهب والإغارة، فتاب وصار في صفّ أولياء الله والمقرّبين من فناء حضرته، فكانت له حالات وكرامات صارت سبباً لعبرة أهل زمانه. يقول:

كان الفضيل بن عياض سارقاً يقطع الطريق بين أبِيوَرْد وسَرَخْس، وكانت القوافل تُعاني من جرائمه الأمرَّين، بحيث كان يزداد خوفهم ورعبهم منه بشكل أكبر، وكان بدوره لا يتحرّج في إغارته على القوافل عن فعل أيّ شيء. ثمّ إنّه اتّفق أن عشق جاريةً. وبينما كان يرتقي جدار المنزل في نصف الليل ليختطفها، سمع من سطح الدار تالياً يتلو هذه الآية: {ألَمْ يَأنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ ومَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}.[2] فقال والدموع تنحدر من مُقلتيه: آنَ، آنَ، والله آنَ! (لقد حلّ الوقت أقسم بالله لقد حلّ الوقت الذي تصير فيه قلوب المؤمنين خاشعةً لذكر الله!) فرجع لتوّه وآوى إلى خربة كان فيها بعض المسافرين يقول بعضُهم لبعض: لِنرحل الليلة. وقال بعضهم: لِنصبر حتّى يطلع الصبح؛ فإنّ فضيلًا كامن في الطريق وسيُغير علينا. فلمّا سمع الفضيل كلامهم، أخبرهم بتوبته وآمنهم. ثمّ التحق الفضيل من هناك بصُحبة الإمام الصادق عليه ‏السلام، وصار من خاصّته وأصحاب سرّه، فبدأ يُحدّث عنه ويذكره جميع العظماء بالوثاقة.[3]

 

يقول المرحوم الشيخ النوري (ره) في «المستدرك» في بيانه لأحوال كتاب «مصباح الشريعة»:

وَبِالجُملةِ فَلا أَستبعِدُ أن يَكونَ المِصباحُ هُوَ النسخَةُ التي رَوَاها الفُضَيلُ، وَهُوَ عَلَى مَذَاقِهِ وَمَسلَكِهِ. وَالذي أَعتَقِدُهُ أَنّه جَمَعَهُ مِن مُلتَقَطات كَلامِهِ [كَلِماتِهِ] أي: الصادق عَلَيه‏ السلامُ في مَجَالِسِ وَعظِهِ وَنَصيحَتِهِ، وَلَو فُرِضَ فِيهِ شَي‏ءٌ يُخالِفُ مَضمونُهُ بَعضَ ما في غَيرِهِ وَتَعذَّرَ تَأويلُهُ فَهُوَ مِنه عَلَى حَسَبِ مَذهَبِهِ لا مِن فِريَتِهِ وَكِذبِهِ؛ فَإنَّهُ يُنافي وثاقَتَهُ. انتهى.[4]

نعم، لقد ذهب الفضيل من عند محضر الإمام الصادق عليه‏ السلام إلى مكّة، حيث توفّي هناك يوم عاشوراء من سنة 187 هجرية.

وقيل بأنّه كان للفضيل ولد اسمه عليّ، وكان أفضل من أبيه في الزهد والعبادة، إلّا أنّه لم يُعمّر كثيراً ومات. وذكروا في سبب موته أنّه كان يوماً في المسجد الحرام واقفاً قرب ماء زَمْزَم، حيث سمع قارئاً يقرأ: {وتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَؤْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ في الأصْفَادِ، سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ}[5] فصاح صيحة، وسقط على الأرض مُسلماً الروح.

 

أجل، بهذه الطريقة يُؤثّر القرآن في القلوب. وقد كان الرسول يهدف إلى سوق جميع الناس إلى منزل السعادة هذا، بينما حوّلت حكومة بني أميّة ـ التي كانت تُجاهر بمخالفة القرآن وتنهى الناس عن التفسير والتأويل وتكتفي بالقراءة فقط ـ مسار تقدّم المؤمنين، فلو لم تحدث ثورة سيّد الشهداء عليه السلام، لما بقِي للقرآن على ظهر الأرض اسم ولا رسم، ولما كان حجّة على الناس، ولانغمس الناس في الظلمات دفعةً واحدةً، وقُضيَ على آخر بارقة أملٍ لهم جميعاً، فلن يتجرّأ أحد على إظهار الحقّ وفضائل أهل البيت. 

 

طرف من واقعة الطفّ

ومن العجيب أنّه لم تُنقل في الفقه عن الإمام الحسن وسيّد الشهداء رواية واحدة، وتمّ ذلك في سائر الأُمور بنحوٍ ضئيلٍ جدّاً؛ إذ إنّ التقيّة الشديدة كانت سبباً في عدم امتلاك الناس للجرأة على السؤال أو الكتابة، فضاعت جميع رواياتهما عليهما السلام بموت الرواة. وأمّا بالنسبة إلى عائشة وأبي هريرة وأنس بن مالك، فقد نُقلت عنهم العديد من الأحاديث. أَفَهل كانوا أقرب إلى الرسول من الحسنين عليهما السلام؟ كلاّ وحاشا! بل إنّ الأوضاع قد اشتدّت في عهد حكومة الجور إلى درجة ادّعى الغُرباء انتحالهم للإسلام، بينما كان يعيش فلذات كبد الرسول ـ الذين نزل القرآن في بيتهم ـ وسط الجور والعدوان، فرحلوا عن هذه الدنيا مغصوبي الحقوق. ولقد ثار الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام لكي يرفع حجاب الجهل عن قلوب الناس وحسب، ويُضيئها إلى يوم القيامة، ولهذا عندما أتت لنصرته طائفةٌ من الملائكة وأقالهم عليه السلام، جاءته طائفة من مسلمي الجنّ، فَقَالوا: يا سَيِّدَنا نَحنُ شِيعَتُكَ وأنصارُكَ فَمُرنا بِأَمرِكَ! إلى أن يقول: «وإذا أَقمتُ بِمَكَاني فَبِماذا يُبتلَى هَذَا الخَلقُ المـَتعُوسُ[6] وبِماذَا يُختَبَرونَ؟!»[7]

 

كما أنّه عليه السلام كان يُجيب كلّ واحد من أصحابه وأرحامه ـ الذين كانوا يمنعونه من المسير ـ بطريقة خاصّة. وكان قلب أمّ سلمة يحترق كثيراً، فكانت تبكي؛ لأنّ الرسول أطلعها مراراً وتكراراً على حادثة الطفّ.

رُوِيَ عن أُمِّ سَلَمَة [رَضِي َاللهُ عَنها] أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ عِنْدِنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَغَابَ عَنَّا طَوِيلًا، ثُمَّ جَاءَنَا وهُوَ أَشْعَثُ أَغْبَرُ ويَدُهُ مَضْمُومَةٌ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا لِي أَرَاكَ شَعِثاً مُغْبَرّاً؟ فَقَالَ: «أُسْرِيَ بِي فِي هَذَا الْوَقْتِ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْعِرَاقِ يُقَالُ لَهُ كَرْبَلاءُ، فَأُرِيتُ فِيهِ مَصْرَعَ الْحُسَيْنِ ابْنِي وجَمَاعَةٍ مِنْ وُلْدِي وأَهْلِ بَيْتِي، فَلَمْ أَزَلْ أَلْقُطُ دِمَاءَهُمْ فَهَا هُوَ فِي يَدِي»، وبَسَطَهَا إِلَيَّ فَقَالَ: «خُذِيهَا فَاحْتفَظِي بِهَا!» فَأَخَذْتُهَا فَإِذَا هِيَ شِبْهُ تُرَابٍ أَحْمَرَ، فَوَضَعْتُهُ فِي قَارُورَةٍ، وشَدَدْتُ رَأْسَهَا، واحْتَفَظْتُ بِهَا. فَلَمَّا خَرَجَ الْحُسَيْنُ [عَلَيه السلامُ] مِنْ مَكَّةَ مُتَوَجِّهاً نَحْوَ الْعِرَاقِ كُنْتُ أُخْرِجُ تِلْكَ الْقَارُورَةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ، فأَشَمُّهَا وأَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ أَبْكِي لِمُصَابِهِ. فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنَ الْمُحَرَّمِ وهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ [عَلَيهِ السلامُ] أَخْرَجْتُهَا [فِي] أَوَّلِ النَّهَارِ وهِيَ بِحَالِهَا ثُمَّ عُدْتُ إِلَيْهَا آخِرَ النَّهَارِ فَإِذَا هِيَ دَمٌ عَبِيطٌ فَصِحْتُ فِي بَيْتِي وبَكَيْتُ... إلى أن قالت: حَتَّى جَاءَ النَّاعِي يَنْعَاهُ [فَحُقِّقَ مَا رَأَيْتُ].[8]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ـ عِياض بكسر العين.

[2] ـ سورة الحديد (57)، الآية 16.

[3] ـ سفينة البحار، ج 2، ص 369؛ بحار الأنوار، ج 75، ص 225؛ الاختصاص، ص 41.

[4] ـ في خاتمة المستدرك، ج 3، ص 328، يتعرّض المرحوم النوري للبحث حول بعض الجوانب المتعلّقة بمصباح الشريعة، حيث يقول بأنّ السيّد بن طاووس الكفعمي والشهيد الثاني يقطعون بصدوره عن الإمام الصادق، هذا مع أنّ بعض العلماء شكّكوا في سنده. وفي الأخير وفي ص 333، يتعرّض لبيان نظريّته من خلال العبارات السابقة.

[5] ـ سورة إبراهيم (14)، الآية 49 و50.

[6] ـ [مجمع البحرين: المتعوس من تعس يتعس تعساً: من باب نفع ومن باب تعب لغة: إذا عثر وانكبّ على وجهه وهو دعاء.]

[7] ـ بحار الأنوار، ج 44، ص 330.

[8] ـ بحار الأنوار، ج 44، ص 239، عن إرشاد المفيد، ج 2، ص 130، نقله في باب ذكر طرف من فضائل الإمام الحسين وفضل زيارته وذكر مصيبته.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد