هناك فرق بين المحاسبة والمؤاخذة، حيث محاسبة الشيء تقييمه واعتباره على موازين العقل والحكمة الرشيدة، أمّا المؤاخذة فهي المساءلة على موافاة العهد لغرض المجازاة عليها، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشرّ.
ومن ثمّ فالمحاسبة على النيّات أمر معقول، ولا سيّما في ذلك اليوم الّذي تبلى فيه السرائر، فيحاسب الناس على نيّاتهم، إن طيّبًا فمع الطيّبين وإن خبيثًا فمع الخبيثين. وليست الأعمال بذواتها معيارًا لمعرفة الشخص، لولا كشفها عن شاكلة نفسه.
وبذلك يعرف معنى قوله تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاء)ُ، إن أريد منها المحاسبة على النيّات محضًا، دون المؤاخذة لموافاة الثواب أو العقاب، الأمر الّذي لا يتنافى مع ما ورد من أنّ المؤاخذة على الأعمال إنّما هي بحسب النيّات أي ليست المؤاخذة على نفس العمل بالنظر إلى كمّيّته، ولكن بالنظر إلى كيفيّته الّتي تتحدّد حسب النيّات. فالمؤاخذة إنّما هي على العمل، أمّا النيّة فهي المحدّدة لأبعاد العمل والجزاء على هذه الأبعاد.
أخرج ابن جرير من طريق الضحّاك عن ابن عبّاس في الآية قال: إنّ اللّه يقول يوم القيامة: إنّ كتّابي لم يكتبوا من أعمالكم إلّا ما ظهر منها، فأمّا ما أسررتم في أنفسكم، فأنا أحاسبكم به اليوم، فأغفر لمن شئت وأعذّب لمن شئت «1»
وأخرج ابن جرير عن الضحّاك قوله: (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) قال: كان ابن عبّاس يقول: إذا دعي الناس للحساب، أخبرهم اللّه بما كانوا يسرّون في أنفسهم ممّا لم يعملوه، فيقول: إنّه كان لا يعزب عنّي شيء، وإنّي مخبركم بما كنتم تسرّون من السوء، ولم تكن حفظتكم عليكم مطّلعين عليه. قال: فهذه المحاسبة «2».
وفيما رواه الصدوق من وصيّة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام لابنه محمّد بن الحنفيّة: (وفرض على القلب - وهو أمير الجوارح - الّذي به تعقل وتفهم وتصدر عن أمره ورأيه، فقال - عزّ وجلّ -: إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ «3»).
وقال عبد اللّه بن المبارك: قلت لسفيان: أيؤاخذ اللّه العبد بالهمّة؟ قال: «إذا كان عزمًا أخذ بها!» «4».
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير من طريق الضحّاك عن عائشة في قوله: (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُم)ْ. قالت: هو الرجل يهمّ بالمعصية ولا يعملها، فيرسل اللّه عليه من الغمّ والحزن بقدر ما كان همّ من المعصية، فتلك محاسبته «5».
وأخرج الطيالسي وأحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن أميّة، أنّها سألت عائشة عن قول اللّه تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) وعن قوله: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) «6» فقالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فقال: «هذه معاقبة اللّه العبد فيما يصيبه من الحمى والنكبة، حتّى البضاعة يضعها في يد قميصه فيفقدها فيفزع لها ثمّ يجدها في ضبنه «7»، حتّى أنّ العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير» «8».
قلت: والمراد - إن صحّت الرواية -: أنّه تعالى إذا وجد عبده المؤمن أضمر سوءًا، حتّى ولو لم يظهره في عمل، فإنّه يؤاخذه مؤاخذة طفيفة، ليتنبّه ويعود إلى رشده، ويعلم أنّه مراقب بعين اللّه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الدرّ 2 : 130 - 131 ؛ الطبري 3 : 200 / 5085 ؛ الثعلبي 2 : 300 ؛ القرطبي 3 : 422.
(2) الطبري 3 : 200 / 5087.
(3) الفقيه 2 : 627 / 3215 ، باب الفروض على الجوارح.
(4) الثعلبي 2 : 301 ؛ البغوي 1 : 400 ؛ أبو الفتوح 4 : 148.
(5) الدرّ 2 : 131 ؛ سنن سعيد 3 : 1014 / 481 ؛ الطبري 3 : 201 / 5091 ، بلفظ : « كانت عائشة تقول : من همّ بسيّئة فلم يعملها أرسل اللّه عليه من الهمّ والحزن مثل الّذي همّ به من السيّئة فلم يعملها ، فكانت كفّارته ».
(6) النساء 4 : 123.
(7) الضّبن : الحجر والجانب.
(8) الدرّ 2 : 131 ؛ مسند الطيالسي : 221 ؛ مسند أحمد 6 : 218 ؛ الترمذي 4 : 289 ؛ الطبري 3 : 202 / 5092 ؛ ابن أبي حاتم 2 : 574 / 3062 ؛ الشعب 7 : 152 / 9809 ؛ ابن كثير 1 : 348 ؛ البغوي 1 : 399 / 349 ؛ الثعلبي 2 : 300 - 301 / 211 ؛ أبو الفتوح 4 : 147.
الشيخ محمد جواد البلاغي
د. حسن أحمد جواد اللواتي
الأستاذ عبد الوهاب حسين
محمود حيدر
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد منير الخباز القطيفي
عدنان الحاجي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
السيد محمد باقر الحكيم
الشيخ محمد هادي معرفة
عبدالله طاهر المعيبد
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
امتياز القران عن غيره من المعجزات
لماذا نقرأ؟
إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا
بين تفكيكيَّة دريدا وعرفانيَّة دو سارتو
من سيرة الإمام الكاظم عليه السلام
الاستشعار بالمسؤولية في كلام الإمام الكاظم عليه السلام
سبب تأخّر ظهور الحيوانات والنّباتات البرّيّة
الإمام الكاظم (ع) في مملكة هارون الرشيد (2)
العزلة والرهبنة
سيرة الجسر