من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ فرج العمران
عن الكاتب :
عالم فقيه مسلم وشاعر وکاتب ولد في القطيف عام 1321هـ، ونشأ فيها ودرس المقدمات ثم غادر إلى النجف الأشرف حيث تابع دراسته وعاد إلى القطيف ليقوم بالتدريس والإرشاد.rn له مؤلفات عديدة منها: أجوبة المسائل الكويتية، مجمع الأنس في شرح حديث النفس، النفحات الأرجية في المراسلات الفرجية، كتاب الأزهار الأرجية وغير ذلك الكثير.rn توفي رحمه الله في الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول عام (1398ه).

في مجلس يزيد في الشّام

... قال السيد ابن طاووس، قال الراوي: ثمّ أُدخل ثِقْل الحسين (ع) ونساؤه ومَن تخلّف من أهل بيته على يزيد بن معاوية وهم مقرّنون في الحِبَال، فلمّا وقفوا بين يديه وهم على تلك الحال قال له علي بن الحسين: ( أُناشدك الله يا يزيد، ما ظنّك برسول الله (ص) لو رآنا على هذه الصفة ؟)، فأمر يزيد بالحبال فقُطِّعتْ، ثمّ وضع رأس الحسين (ع) بين يديه، وأجلس النساء خلفه لئلاّ ينظرْنَ إليه، فرآه علي بن الحسين (ع) فلم يأكل بعد ذلك أبداً، وأمّا زينب فإنّها لـمّا رأتْه أهوتْ إلى جيبها فشقّتْه، ثمّ نادتْ بصوتٍ حزين يُقْرِح القلوب: يا حسيناه، يا حبيب رسول الله، يا ابن مكّة ومِنَ ، يا ابن فاطمة الزهراء سيدة النساء، يا ابن بنت المصطفى. قال الراوي: فأبكت والله كل من كان في المجلس ويزيد ساكت.

قال السيد ابن طاووس: ثمّ دعا يزيد بقضيب خيزران فجعل ينكتُ به ثنايا الحسين (ع)، فأقبل عليه أبو برزة الأسلمي وقال: ويحك يا يزيد، أَتَنْكُثُ بقضيبك ثَغْرَ الحسين (ع)، ابن فاطمة (ع)، أشهد لقد رأيتُ النبيّ (ص) يرشِفُ ثناياه وثنايا أخيه الحسن (ع) ويقول: (أنتما سيّدا شباب أهل الجنّة، فقتل الله قاتلكما ولعنه وأعد له جهنّم وساءتْ مصيراً). قال الراوي: فغضب يزيد وأمر بإخراجه فأُخرج سَحْبَاً، قال: وجعل يزيد يتمثّل بأبيات ابن الزبعرى:

 لَيتَ أَشياخي بِبَدرٍ شَهِدوا

جَزَعَ الخَزرجِ مِن وَقعَ الأَسَل

 لأَهَلُّوا واسْتَهَلُّوا فَرَحَاً  

ثُمّ قَالُوا يا يزيد لا تُشَل

قَدْ قَتَلْنَا القَرْمَ مِن سَادَاتِهِم  

وَعَدَلْنَاه بِبَدْرٍ فَاعْتَدَل

لَعِبَتْ هَاشِمُ بِالْمُلْكِ فَلا  

خَبَرٌ جَاءَ وَلاَ وَحْيٌ نَزَل

لست مِن خِنْدِف إنْ لَمْ أَنْتَقِمْ

مِنْ بَنِي أَحْمَد مَا كانَ فَعَل

 

خطبة زينب (ع) في مجلس يزيد في الشام

قال الراوي: فقامتْ زينب بنت علي بن أبي طالب (ع) فقالتْ:

الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله سبحانه كذلك يقول: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَآءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ)، أظننتَ يا يزيد ـ حيث أَخَذْتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُسَاق كما تُسَاق الأُسراء ـ أنّ بنا هواناً على الله، وبك عليه كرامة، وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده، فَشَمِخْتَ بأنْفِكَ، ونظرتَ في عطفك جذلان مسروراً حيث رأيتَ الدنيا لك مُسْتَوْسِقَة، والأمور مُتّسِقَة، وحين صفا لك مُلْكُنا وسلطاننا، فَمَهلاً مهلاً، أَنَسِيْتَ قَوْل الله تعالى: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ).

أَمِنَ العدل يا بن الطلقاء، تَخْدِيْرك حرائرك وإِمَائِك، وسَوْقك بنات رسول الله (ص) سبايا، قد هتكتَ ستورهن، وأَبديْتَ وجوههنّ، تَحْدُو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد ويستشرفهنّ أهلُ المناهِل والمناقِل، ويتصفّح وجوههنّ القريبُ والبعيدُ والدنيُّ والشريف، ليس معهنّ مِن رجالهنّ وليّ ولا مِن حُماتهنّ حَمِي؟ وكيف ترتجي مراقبة مَن لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبتُ لحمه من دماء الشهداء؟ وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشَنَفِ والشَنَآن، والإحَن والأضغان؟ ثمّ تقول غير متأثّم ولا مستعظم:

لأَهَلُّوا واسْتَهَلُّوا فَرَحَاً

ثُمّ قَالُوا يا يزيد لا تُشَل

منحنياً على ثنايا أبي عبد الله (ع) سيد شباب أهل الجنّة تنكثها بِمِخْصَرَتِكَ، وكيف لا تقول ذلك! وقد نكأتَ القرحة واستأصلتَ الشَأْفَة بإراقتِكَ دماء ذرّيّة محمّد (ص) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، وتهتفُ بأشياخك زعمتَ أنّك تناديهم، فَلَتَرِدَنّ وَشِيْكَاً موردهم، ولتَوُدَنّ أنّك شُلِلْتَ وبُكِمْتَ ولم تكنْ قلتَ ما قلتَ وفعلتَ ما فعلتَ، اللّهمّ خُذْ بحقّنا وانتقِمْ مِن ظالمنا، واحْلُلْ غضبَكَ مِمَّن سَفَكَ دِمَاءَنَا وقَتَل حُمَاتنا، فوالله ما فَرَيْتَ إلاّ جِلْدَكَ، ولا حَزَزْتَ إلاّ لَحْمَكَ، ولتَرِدَنّ على رسول الله (ص) ممّا تحمّلتَ مِن سَفْكِ دِمَاء ذرّيّته، وانتهكتَ مِن حرمته في عترته ولُحْمَتِهِ، حيث يجمع الله شَمْلَهم ويَلُمّ شَعَثَهم ويأخذ بحقّهم، (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) وحسبك الله حاكماً وبمحمّد (ص) خصيماً وبجبرائيل ظهيراً، وسيعلم مَن سوّلَ لك ومكّنكَ من رقاب المسلمين، وبئس للظالمين بَدَلاً، وأيّكم شَرٌ مكانَاً وأضعف جُنْدَاً، ولئنْ جرّتْ عَلَيّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لأَسْتَصْغِرُ قَدْرَك، وأسْتَعْظِمُ تَقْرِيْعَكَ، وأَسْتَكْثِرُ تَوْبِيْخَكَ، لكنّ العيون عَبْرَى والصدور حَرّى، أَلاَ فالعَجَب كلّ العَجَب لقَتْلِ حزب الله النُجَبَاء بحزب الشيطان الطُلَقَاء، فهذه الأيدي تنطفُ من دمائنا، والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجُثَث الطواهر الزواكي تَنْتَابها العواسِل وتعفّرها أُمَهات الفراعِل، ولئنْ اتَخذْتَنَا مَغْنَمَاً لتجدنا وَشِيْكَاً مَغْرَمَاً، حين لا تجد إلاّ ما قدّمتْ يداك (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) فإلى الله المشتكى وعليه المعوّلُ، فَكِدْ كَيْدَك واسْعَ سَعْيَكَ ونَاصِبْ جُهْدَكَ، فوالله لا تَمْحُو ذِكْرَنَا ولا تُمِيْتُ وَحْيَنَا ولا تُدْرِكُ أَمَدَنَا ولا تَدْحَضُ عَنْكَ عَارِهَا، وهل رأيُك إلاّ فَنَد وأَيّامُكَ إلاّ عَدَد وجَمْعُكَ إلاّ بَدَد، يوم ينادي المنادي: أَلا لعنةُ الله على الظالمي ، فالحمد لله ربّ العالمين الذي ختم لأوَّلِنَا بالسعادة والـمَغْفِرَة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أنْ يكمل لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة إنّه رحيم ودود وحسبنا الله ونِعْمَ الوكيل.

 

فقال يزيد:

يا صيحةً تُحْمَدُ مِن صَوَائِحِ  

مَا أَهْونَ الـمَوْت على النَوَائِحِ

قال المؤلّف النقدي (أعلى الله مقامه): إنّ بلاغة زينب وشجاعتها الأدبية ليست من الأمور الخفيّة، وقد اعترف بها كلّ مَن كتب في وقعة كربلاء، ونوّه بجلالتها أكثر أرباب التاريخ، ولعمري إنّ من كان أبوها علي بن أبي طالب (ع) الذي ملأت خطبه العالم وتصدى لجمعها وتدوينها أكابر العلماء، وأُمّها فاطمة الزهراء صاحبة خطبة (فدك الكبرى) وصاحبة (الخطبة الصغرى) التي ألقتْها على مسامع نساء قريش، ونقلتها النساء لرجالهنّ، نعم إنّ مَن كانت كذلك فَحَرِيّة بأنْ تكون بهذه الفصاحة والبلاغة، وأنْ تكون لها هذه الشجاعة الأدبية والجسارة العلوية، ويزيد الطاغية يوم ذاك هو السلطان الأعظم والخليفة الظاهري على عامّة بلاد الإسلام، تؤدّي له الجِزْيَة الأُمَمُ المختلفة والأُمَمُ المتباينة في مجلسه، الذي أظهر فيه أُبَّهَةَ الملك ومَلأَهُ بهيبة السلطان، وقد جُرِّدتْ على رأسه السيوف، واصطفّتْ حوله الجلاوزة، وهو وأتباعه على كراسيّ الذهب والفضّة وتحت أرجلهم الفرش من الديباج والحرير، وهي صلوات الله عليها في ذلّة الأَسْر، دامية القلب باكية الطرف، حَرّى الفؤاد من تلك الذكريات المؤلِمة والكوارث القاتلة، قد أحاط بها أعداؤها من كلّ جهة، ودار عليها حُسّادها مِن كلّ صوب، ومع ذلك كلّه ترمز للحقّ بالحق، وللفضيلة بالفضيلة، فتقول ليزيد غير مكترثة بهيبةِ ملكه ولا معتنية بأُبّهة سلطانه: أَمِنَ العدل يا بن الطلقاء.

وتقول له أيضاً: ولئنْ جرّتْ عَلَيّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لأَسْتَصْغِرُ قَدْرَك، وأسْتَعْظِمُ تَقْرِيْعَكَ، وأَسْتَكْثِرُ تَوْبِيْخَكَ. فهذا الموقف الرهيب الذي وقفتْ به هذه السيدة الطاهرة مثّل الحقّ تمثيلاً، وأضاء إلى الحقيقة لطُلاّبها سبيلاً، أَفْحَمَتْ يزيد ومَن حواه مجلِسُهُ المشؤوم بذلك الأسلوب العالي من البلاغة، وأَبْهَتَتْ العارفين منهم بما أخذتْ به مجامع قلوبهم من الفصاحة، فخرِسَتْ الأَلْسُن وكُمّتْ الأفواه وصُمّتْ الآذان، وكهربتْ تلك النفس النورانيةُ تلك النفوسَ الخبيثةَ الرذيلة مِن يزيد وأتباعه بكهرباء الحقّ والفضيلة، حتى بلغ به الحال أنّه صبر على تكفيره وتكفير أتباعه، ولم يتمكّن مِن أنْ يَنْبِس بِبِنْتِ شِفَة ليقطع كلامها أو يمنعها من الاستمرار في خطابتها، وهذا هو التصرّف الذي يتصرّف به أرباب الولاية متى شاءوا وأرادوا بمعونة الباري تعالى لهم، وإعطائهم القدرة على ذلك.

 

وما أبدع ما قاله الشاعر الجليل السيد مهدي ابن السيد داود الحلّي عمّ الشاعر الشهير السيد حيدر رحمهما الله في وصف فصاحتها وبلاغتها من قصيدة:

 قد أسروا مَن خَصّها بآيةِ

التطهيرِ ربّ العرشِ في كتابهِ

إنْ ألبستْ في الأَسْرِ ثَوْبَ ذُلَّةٍ  

تَجَمَّلَتْ للعزِّ في أَثْوَابِهِ

ما خَطَبَتْ إلاّ رَأَوْا لِسَانَهَا

أَمْضَى مِن الصمْصَامِ فِي خِطَابِهِ

وجَلْبَبَتْ فِي أَسْرِهَا آسِرَهَا

عَارَاً رَأَى الصغَار فِي جِلْبَابِه

والفصحاءُ شاهدوا كلامَها

مقال خَيْرَ الرُسْلِ في صَوَابِهِ

 

ومِن شجاعتها الأدبية في مجلس يزيد ما نقله أرباب المقاتل وغيرهم من رواة الأخبار: إنّ يزيد دعا بنساء أهل البيت والصبيان فأُجْلِسُوا بين يديه في مجلسه المشؤوم، فنظر شاميٌّ إلى فاطمة بنت الحسين (ع) فقام إلى يزيد وقال: يا أمير المؤمنين، هَبْ لي هذه الجارية تكون خادمة عندي؟

قالت فاطمة بنت الحسين (ع): فارتعدت فرائصي، وظننتُ أنّ ذلك جائز لهم، فأخذتُ بثياب عَمّتي زينب، فقلتُ: عمّتاه أُوْتِمْتُ وأُسْتَخْدَم؟

فقالتْ عمّتي للشاميّ: كذِبْتَ والله ولَؤُمْتَ، ما جعل الله ذلك لك ولا لأميرك.

فغضب يزيد وقال: كَذِبْتِ والله، إنّ ذلك لي ولو شئتُ لَفعلتُ.

قالتْ: كلاّ والله، ما جعل ذلك لك إلاّ أنْ تَخرِج مِن مِلّتِنَا وتدين بغير ديننا.

فاستطار يزيد غضباً وقال: إيّاي تستقبلين بهذا الكلام، إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك.

فقالتْ زينب: بدين أبي وأخي اهتديتَ أنت وأبوك إنْ كنتَ مسلماً.

قال: كَذِبْتِ يا عدوّة الله.

قالتْ: يا يزيد، أنت أمير تشتمُ ظالماً وتقهر بسلطانك، فكأنّه استحى وسكتَ فأعاد الشامي كلامه هَبْ لي هذه الجارية، فقال له يزيد: اسكتْ ، وَهَبَ الله لك حَتْفَاً قاضِياً.

وروى السيد ابن طاووس في اللهوف هذه الرواية كما يأتي:

قال: نظر رجل من أهل الشام إلى فاطمة بنت الحسين (ع) فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية.

فقالتْ فاطمة لعمّتها زينب (ع): أُوْتِمْتُ وأُسْتَخْدَمُ؟

فقالت زينب (ع): لا، ولا كرامة لهذا الفاسق، فقال الشامي: مَن هذه الجارية؟ فقال يزيد: هذه فاطمة بنت الحسين، وتلك زينب بنت علي بن أبي طالب.

فقال الشامي: الحسين بن فاطمة وعلي بن أبي طالب؟

قال: نعم.

فقال الشامي: لعنك الله يا يزيد، أَتقتل عترة نبيّك وتسبي ذرّيّته، والله ما توهّمتُ إلاّ أنّهم سَبْي الروم، فقال يزيد: لأُلْحِقَنَّكَ بهم، ثمّ أمر به فضُرِبَتْ عنقه. والذي يظهر أنّ هاتَين القضيّتين كلتيهما وقعتا في ذلك المجلس المشؤوم.

قال السيد محسن الأمين في لواعجه: ثمّ دخلتْ نساء الحسين (ع) وبناته على يزيد فقمْنَ إليهنّ وصِحْنَ وبَكِيْنَ وأَقَمْنَ الـمَآتِم على الحسين (ع)، ثمّ أمر لهم يزيد بِدَارٍ تتّصِلُ بداره، وقيل أَمَرَ بهم إلى منزل لا يكنّهم مِن حَرٍّ ولا بَرْدٍ، فأقاموا فيه حتى تقشّرتْ وجوههم، وكانوا مدّة مقامهم في الشام ينوحون على الحسين (ع).

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد