مقالات

أثر التربية الصالحة

لِتربية الأبناء أهمّيّة عظيمة في صلاح المجتمع المسلِم وصيانة الأمّة، ولا سيّما مع ازدياد حَجم التحدّي الثقافيّ ووسائله وأدواته ومغرياته التي قد تُصيب بعضهم بالإحباط، فضلاً عمّا نجده اليوم مِن إهمالِ بعض الآباء والأمّهات وتَسَيُّبهم؛ إمّا لجهلهم وانشغالهم عن أبنائهم، وإمّا لأنّهم لم يجعلوا تربيتهم جزءاً مِن عملهم وضروريّات حياتهم، وإمّا لسوء أخلاقهم وعصيانهم، مع أنّنا نقرأ في الشرع الحنيف ضرورة تقديم التربية والتعليم على أيّ عملٍ آخر، فَهُما روح العبادة وهدف الشريعة والغاية مِن الفرائض، وَثوابهما لا يُقارَن بثواب، وفضلهما أسبق مِن كلِّ فَضْل.

 

الأهل شركاء أبنائهم في صالح أعمالهم

 

وَرَد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ دَعَا إِلَى هُدىً كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا ينْقص ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئاً»[1]، فَالأهل يُشاركون أبناءَهم الثواب والأَجْر والحسنات، وَلهم ما لِأولادهم مِن كلِّ عَملٍ صالح وسُنّةٍ حَسَنة وفِعل خير كانوا يُعلّمونهم إيّاه، وهذا مِن أعظم الفَضْل الذي يجده الإنسان يوم القيامة. وهذا الكلام يشمل الأهل وَكلّ مَن يُقدّم للأبناء معرفة أو نصيحة أو يَهديهم إلى الخير.

 

بقاء العمل بعد الموت

 

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عنه عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَة جَارِيَة، وَعِلْم يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَد صَالِح يَدْعُو لَهُ»[2]. وَالأولاد، بِنَصّ هذا الحديث، مِن أعمال الإنسان التي تبقى بعد موته؛ والأعمال مِنها ما هو صالح يُؤجرون عليه، ومِنها ما هو دون ذلك، كما عبَّر القرآن الكريم عن ابن نوح (عليه السلام) بِالعمل غير الصالح، فَقال تعالى: ﴿قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحۖ﴾[3].

 

ثواب تربية البنت

 

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ فَصَبَرَ عَلَيْهِنَّ وَأَطْعَمَهُنَّ وَسَقَاهُنَّ وَكَسَاهُنَّ مِنْ جِدَتِهِ، كُنَّ لَهُ حِجَاباً مِنْ النَارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[4]، وتخصيص البنت إشارة إلى ضرورة العناية اللازمة، كونها تتميّز بالرقّة والضعف، ولا تقوى على ما يقوى عليه الشابّ، مُضافاً إلى محاربة العادات الجاهليّة التي كانت تحتقر البنت وتعدّها عاراً يجب التخلُّص منه. وَفي روايةٍ أخرى: «مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ [وَضَمَّ أَصَابِعَهُ]»[5] ؛ وَ«مَن عالَ» معناه مَن قامَ عليهما بالمؤونة والتربية والتعليم والوقوف إلى جانبهما في الأحوال كلّها. وهذا الحديث أكثر فضلاً، فَصحبة النبيّ (صلى الله عليه وآله) أعلى منزلة مِن مجرّد النجاة مِن العذاب، وَهو أوسع معنىً، بحيث يشمل مَن عالَ غير ابنتَيْن، كَأُختَيْن أو نحو ذلك. وقال (صلى الله عليه وآله) أيضاً: «مَنْ ابْتُلِيَ مِنْ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ ستْراً مِن النَارِ»[6].

 

التكريم في الدنيا بالذِكر الحَسَن

 

إنّ الله تعالى مدح نبيَّه إسماعيل (عليه السلام) في كتابه، فَكان مِن أهمّ ما أثنى به عليه أنّه كان مهتمّاً بأهله، يأمرهم بالصلاة ويُربّيهم على العبادة، فَقال سبحانه: ﴿وَكَانَ يَأۡمُرُ أَهۡلَهُۥ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِۦ مَرۡضِيّا﴾[7]. وَكَرّم لقمان فَذكره باسمه في القرآن، مع أنّه لم يذكر كثيراً مِن الأنبياء (عليهم السلام) فيه، وما ذلك إلّا لوصيّته العظيمة لابنه وحِرصه على تربيته على العقيدة الصحيحة والأخلاق الفاضلة؛ قال تعالى: ﴿وَإِذۡ قَالَ لُقۡمَٰنُ لِٱبۡنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَٰبُنَيَّ لَا تُشۡرِكۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيم﴾[8]. فَهذا الجهد المبارك في تربية الأبناء كان مورد رضى وقبول الله تعالى، فأورَدَه في كتابه لِيَكون سُنّة دائمة يتأسّى بها العباد الصالحون إلى يوم القيامة.

 

شرف عظيم يوم القيامة

 

إنّ كلَّ مَكرَمة يُعلّمها الأهل لأبنائهم تزيد مِن مقامهم ودرجتهم يوم القيامة حتّى يبلغ المرء بذلك أعلى الدرجات. ولَمّا كان تعليم القرآن أفضل العلوم التي لا يُستغنى عنها لكلّ فَرد منّا، خصّ الله هذه الفضيلة بِبَيان ثوابها الجزيل يوم القيامة، فَقَد وردَ عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): «ويُكسى والداه حلّتين لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بما كُسينا هذا؟ فَيُقال: بِأَخْذ ولدكما القرآن»[9]. وفي المقابل، فإنّ كلّ مَنقصةٍ يكتسبها الأبناء مِن آبائهم ستترك إثمها وعارها عليهم، فَقَد وَرَد عن الإمام الصادق(عليه السلام): «كفى بالمرء إثماً أن يُضيّع مَن يعول»[10]. فإن كان في تربيتهم حفظهم ورعايتهم الأجر والثواب وعالي الدرجات، فإنّ في ضياعهم الإثم والعقاب والعذاب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ - مركز المعارف للتأليف والتحقيق)

[1] الشهيد الثاني، زين الدين بن عليّ، منية المريد، مكتب الإعلام الإسلاميّ، إيران - قمّ، 1409هـ.، ط1، ص102.

[2] الترمذيّ، أبو عيسى محمّد بن عيسى بن سورة، الجامع الصحيح (سنن الترمذيّ)، تحقيق وتصحيح عبد الوهّاب عبد اللطيف، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، 1403هـ - 1983م، ط2، ج2، ص418.

[3] سورة هود، الآية 46.

[4] القزوينيّ، محمّد بن يزيد، سنن ابن ماجة، تحقيق وترقيم وتعليق محمّد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان- بيروت، لا.ت، لا.ط، ج2، ص1210.

[5] النيسابوريّ، أبو الحسين مسلم بن الحجّاج بن مسلم القشيريّ، الجامع الصحيح (صحيح مُسلم)، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان - بيروت، لا.ت، لا.ط، ج8، ص38.

[6] البيهقيّ، أحمد بن الحسين، معرفة السنن والآثار، سيّد كسرويّ حسن، دار الكتب العلميّة، لا.ت، لا.ط، ج1، ص277.

[7] سورة مريم، الآية 55.

[8] سورة لقمان، الآية 13.

[9] ابن كثير، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشيّ الدمشقيّ، تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، تقديم يوسف عبد الرحمن المرعشليّ، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، 1412هـ - 1992م، لا.ط، ج1، ص36.

[10] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة، إيران - قمّ، 1414هـ، ط2، ج1، ص168.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد