من الأوهام أن فكرة الآخرة تعارض وتقاوم التطور والتقدم، لأن المؤمنين بها يهتمون بخلاصهم في العالم الثاني أكثر من اهتمامهم في هذه الحياة، ولا فرق عندهم بين أن يظلوا في الوضع الذي هم عليه أو ينتقلوا منه إلى أسوأ أو أحسن. ولذا تراهم يسمحون للانتهازيين باستثمارهم واستغلال أوطانهم.
وليس من شك بأن هذا يصح بالقياس إلى دين يعارض الإصلاح، ويأمر أتباعه بالبعد عن واقع الحياة وأشيائها. أما الدين الذي يثق بالإنسان وعظمته، ويحثه على العلم والعمل حتى لا يفوته شيء من مقدسات الحياة، وحتى يستغل كل ما في هذا الكون لمنفعة العالم، أما العقيدة التي يقول كتابها المقدس: «مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا... يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ويقول قادتها: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا.. أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة.. اللّه في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه. خير الناس أنفع الناس للناس. أما فكرة الآخرة في هذا الدين وهذه العقيدة فهي غاية مثالية تدفع بصاحبها إلى التقدم والعمل في سبيل الحياة، وحافز اجتماعي يحثه على الجهاد والتضحية من أجل أمته وبلاده.
ولا شيء أدل على هذه الحقيقة مما جاء في الكتاب والحديث عن أوصاف أهل الجنة والنار، فمن الكتاب: «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ». «الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ». «وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ». «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ». «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ». «ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ». «هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ...».
ومن الحديث: «من سلك طريقًا إلى العلم سلك به طريقًا إلى الجنة». «من كتم علمًا جاء يوم القيامة بلجام من نار». «من لقي الناس بوجهين ولسانين جاء يوم القيامة، وله لسان من قفاه، وآخر من قدامه يلتهبان نارًا». «يحشر المتكبر على هيئة الذر يطأه الناس بأقدامهم». «من خاف الناس من لسانه فهو من أهل النار». «إن في الجنة غرفًا يسكنها من أطاب الكلام وأطعم الطعام وأفشى السلام». وما إلى ذلك مما لا يتسع له المجال.
إذن فطريق الجنة هو العلم والعمل النافع، واتباع الحق والصدق، وإفشاء السلام والأمن والأمان. وطريق النار هو الظلم والفساد، وكتمان العلم والكذب والنميمة وما إلى ذلك. وأجمع كلمة وأبلغها قول اللّه عز وجل: «مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا».
وقد يتساءل: إذا كانت الجنة تدرك بالعمل للعمران والسعادة في هذه الحياة فبماذا نفسر ما جاء في القرآن والحديث من ذم الدنيا وأهلها، والحث على الإعراض عنها، وزهد الأنبياء فيها؟!
الجواب:
لقد خلط الناس لزمن طويل بل حتى الآن بين حب المال وجمعه كغاية، وبين حب الحياة، وظنوا أن الاثنين شيء واحد، أو أنهما متساويان لا يفترقان، ومنشأ هذا الخلط والوهم ما جاء في الكتاب لعزيز: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ... * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى». وفي الحديث: «الدنيا والآخرة ضرتان لا تجتمعان». وما إلى ذلك مما أكد هذا المعنى تصريحًا أو تلويحًا.
ولكن مع النظر الفاحص يتبين لنا ان أحدهما غير الآخر، إذ المراد الدنيا المذمومة تأليه المال والتكالب عليه، وبالآخرة الحق والعدل. ولا ريب أن الحق والباطل ضدان لا يجتمعان، أما طلب المال للعيش وسدّ الحلة فهو من أفضل الطاعات بحكم العقل والشرع، ويدل عليه قوله تعالى: «وابتغ فيما آناك اللّه الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا.. ولا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم.. ألم تر أن اللّه سخر لكم ما في الأرض». وفي الحديث: «ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا الآخرة للدنيا، ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه. المؤمن القوي خير وأحب عند اللّه من المؤمن الضعيف».
إن الإنسان مهما تجرد وعف، وسمى بروحانيته فلا يمكنه بحال أن يدع التفكير في عيشه وطعامه وشرابه، فقد يهون عليه أن يكبح شهوته الجنسية، ويهون عليه أن يترك الكثير مما اعتاد وألف، ولكنه لا يستطيع أن لا يفكر في الغذاء ما دامت معدته تطلب ذلك. وعلى هذا لا يكون العمل في نطاق العيش وسد الحاجة ضربًا من الأنانية والمنافع الخاصة، وإنما هو عمل إنساني، ونضال من أجل الحياة العامة والمصلحة الاجتماعية، فمن عمل لصيانة نفسه وحفظ حياته فقد عمل لصالح الجماعة التي هو فرد منها، وناضل في سبيل مثل إنساني نبيل، أما إذا عمل للتفاخر والتكاثر بالمال، وإيثارًا للراحة وحب الشهوات، فقد عمل لمآربه الشخصية.
قال الرسول الأعظم: «من طلب الدنيا مكاثرًا مفاخرًا لقي اللّه وهو عليه غضبان، ومن طلبها استعفافًا وصيانة لنفسه جاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر» لأن عمل الثاني اتخذ شكلًا إنسانيًّا، بعكس الأول الذي تمثل في عمله الطمع والجشع.
قال بعض العلماء: كل ما تدعو إليه الحاجة «1» من المأكل والملبس والمسكن فهو للّه، وما زاد عنها، وصرف للتنعم والترف فهو لغير اللّه. إذن معاش الإنسان في حياته هذه حق من حقوق اللّه. لذا أولاها الأنبياء العناية والاهتمام، وأعلنوا حربًا شعواء على الذين يجمعون المال كغاية قصوى لجهودهم، ولا يرون الخير والجمال والحق إلا بجمعه واحتكاره، فمن آيات القرآن المنزل على محمد: «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ.. لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.. وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ».
وفي الحديث: «رأس كل خطيئة حب الدنيا.. مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القر كلما ازدادت على نفسها لفًّا كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غما» وقال عيسى روح اللّه «2»: «الرب مسحني لأبشر المساكين، وأرسلني لأشفي منكسري القلوب، وأنادي للمأسورين بالانطلاق، وللعمي بالبصر، وللمستحقين بالحرية».
ومن هذه الآيات والأحاديث يتبين لنا أن زهد الأنبياء لم يكن من أجل الفقر والعوز، ولا تحقيرًا للملذات، وتحريمًا للطيبات، ولا من أجل ترويض النفس وتمرينها على المشاق والأثقال، ولا لأن الزهد عقيدة دينية ومن القيم الروحية، كما يظن كثيرون، وإنما هو احتجاج صارخ على المستغلين، وثورة على من قسم الناس إلى فئات، وعلى من ظن أن الفقر خساسة وانحطاط، والثروة شرف وكرامات «3». وهو دليل أيضًا على أن الأنبياء يحيون ما يقولون، ويقولون ما يحيون. وهو درس كذلك أعطاه الأنبياء للمستضعفين بأن لا ييأسوا ولا يقنطوا مهما تكن الظروف والأحوال، وبأن الفقر والجوع لا يعوق عن النضال والكفاح، وأن السلاح الأكبر هو الح ، فما دمت تطلب بحقك فإنك قوي، وإن كنت جائعًا معدمًا، وإذا ناصرت الباطل فإنك ضعيف، وإن تمت لك العدة والعدد.
لقد قاوم الأنبياء المستغلين، وهم عزل من المال والسلاح، ليحركوا في نفوس المضطهدين، إرادة التحدي لكل معتد أثيم، ولا يتنازلوا له عن شي من حقهم، وإن امتلأت بهم السجون، وارتفعت أجسامهم على أعواد المشانق.
إن زهد الأنبياء والصلحاء كان لحساب الإنسان، ومن أجل حقوقه وكرامته. إنهم يعلمون أن هذا الرغيف وهذا القميص هما عرق الكادحين ودماؤهم، فكيف يشبعون من الطعام، ولعل الذي زرعه وحصده جائعًا! وكيف يلبسون فاخر الثياب، وربما الذي حاكها عريان! قال الإمام علي بن أبي طالب: «لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع، أأبيت مبطانًا وحولي بطون غرثى، وأكباد حرى؟! أو أكون كما قال الشاعر: وحسبك داء أن تبيت ببطنة * وحولك أكباد تحن إلى القدّ.
إن التكالب على المال يفقد الشخص إنسانيته، ويزيل من نفسه كل شعور بالواجب، أي واجب، فلقد رأينا كيف تعاون أرباب المصانع والمكاسب مع المستعمرين ضد أوطانهم! وكيف استقبلوهم بأقواس النصر وأكاليل الزهر كأنهم محررون منقذون! وكيف يتاجرون بالعواطف الدينية ولا يعبدون اللّه إلا على حرف. ومن هنا كان موقف الأنبياء معهم تمامًا كموقفهم مع الجاحدين والمشركين.
وبالتالي، نعيد القول مرة ثانية إن طريق الجنة هو العلم النافع والعمل البنّاء، ويكفي شاهدًا على هذه الحقيقة قول الإمام علي لمن ذم الدنيا: «الدنيا منزل صدق لمن صدقها، ومسكن عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، فيها أنبياء اللّه، ومهبط وحيه، ومصلى ملائكته، ومسكن أحبابه، ومتجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا منها الجنة. فمن ذا يذم الدنيا؟!».
إن فكرة الآخرة تنهى عن الظلم والاحتكار، واستغلال الإنسان للإنسان، وتبعث على العمل والتضحية لخير الناس والصالح العام، وهذا ما أراده الإمام بقوله: «متجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا منها الجنة».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الحاجة وسط بين الضرورة والترف، فالضرورة ما تبقي على الأنفاس، كأكل الخبز بلا أدام، والترف أن يكون لديك ما لذ وطاب، وسد الحاجة أن يتوافر لك كل ما تستدعيه الحياة دون زيادة أو نقصان.
(2) معنى روح اللّه رحمته تعالى أي أن عيسى أرسله اللّه رحمة للناس كالمطر، فهو شبيه محمد الذي قال سبحانه عنه «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» وقد استعمل القرآن الكريم لفظة الروح بهذا المعنى في الآية 12 من سورة المجادلة: «وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» أي برحمة منه.
(3) قيل: إن ثريًّا تاه وافتخر على فقير، فقال له: إن افتخرت بفرسك فالحسن للفرس لا لك، وإن افتخرت بثيابك فالحسن لها دونك، وإن افتخرت بآبائك فالفضل فيهم لا فيك، وإن افتخرت بمنصبك فالشرف منه لا منك، فكل المحاسن خارجة عنك، وأنت منسلخ عنها، وقد رددناها على أصحابها، وبقيت صفر اليدين..
الشيخ مرتضى الباشا
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطهراني
الفيض الكاشاني
الشيخ محمد هادي معرفة
عدنان الحاجي
السيد عباس نور الدين
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
الشيخ علي الجشي
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان