مقالات

العلم والدین


الشيخ حسين أنصاريان ..

فی الزمن الّذي تشنّ فیه الحملات الإعلامیّة المعادیة لتقدیم الدِّین والإسلام على وجه الخصوص کدین للتخلّف والجهل والتعصّب والخرافة والرجعیّة وما شاکل، من المحزن أن نحتاج لنتکلّم ونستدلّ وندافع عن أمر واضح وبیِّن لکلّ ذي لبٍّ في معرکة یمتلك فیها خصومنا - قوى الاستکبار فی العالم- کلّ عناصر الدعایة والإعلام ومراکز الدراسات.


اللهُ تعالى مصدرُ العلم
أنزل الله سبحانه وتعالى الکتب السماویّة، وبعث الأنبیاء والرسل - قادة الدین- إلى البشریّة لهدایتها وتوعیتها وإنذارها، یقول تعالى:﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَ لِئَلاَّ یَکُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَکَانَ اللّهُ عَزِیزًا حَکِیمًا﴾(1)، ویقول سبحانه: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّکَ الَّذِی خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّکَ الْأَکْرَمُ * الَّذِی عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ یَعْلَمْ﴾(2) فالله سبحانه وتعالى هو الّذی علم الإنسان ما لم یعلم، فالدین مصدره الله والعلم مصدره الله.
إلا أنّ هناك من یصرّ على فرضیّة الصراع بین الدِّین والعلم، ویعتبر أنّهما لا یجتمعان بل إنّ هناك تناقضاً بینهما. إلا أنّ الواقع والتاریخ یکذبان هذه الفرضیّة؛ فالأنبیاء والرسل علیهم السلام لم یکونوا فقط مبلّغي رسالات الدین، بل کانوا أیضاً معلّمي البشریّة في الکثیر من مجالات العلم بل إنّ العلماء الألبّاء عجزوا أمام معارف الأنبیاء الموهوبة من الله تعالى وهذا ما نراه جلیّاً فی أحوال نبي الله عیسى بن مریم علیه السلام حیث أحیا بعلمه الإلهیّ الموتى وشفا الأعمى والمرضى: ﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِی إِسْرَائِیلَ أَنِّی قَدْ جِئْتُکُم بِآیَةٍ مِّن رَّبِّکُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَکُم مِّنَ الطِّینِ کَهَیْئَةِ الطَّیْرِ فَأَنفُخُ فِیهِ فَیَکُونُ طَیْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأکْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْیِی الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُکُم بِمَا تَأْکُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِی بُیُوتِکُمْ إِنَّ فِی ذَلِکَ لآیَةً لَّکُمْ إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ﴾(3).
أمّا مکانة العلم والعلماء فی القرآن والروایات فإنّها ممّا تعجز به کلماتنا عن الإحاطة ببعض من شأنه أو شيء من مقامه ویکفینا قول الله سبحانه: ﴿یَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنکُمْ وَالَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾(4) وبذلك نتبیّن أنّه ما من دین أو عقیدة أو فکر أو حضارة تحدّثت عن العلم والمعرفة ومکانة العلماء وحثّت على طلب العلم وبیّنت قیمة ودرجة وأثر العلم فی الدنیا وفي الآخرة کما فعل الإسلام العظیم وخاتم النبیّین محمّد بن عبد الله صلى الله علیه وآله وسلم. ولم یکن أحدٌ قبل رسول الإسلام قد خطر في باله أن یجعل فداء الأسرى الّذین وقعوا في ید المسلمین فی معرکة بدر بأن یعلّم کلّ أسیر عشرة من المسلمین! حتّى الفدیة أراد صلى الله علیه وآله وسلم أن یوظّفها فی خدمة العلم والتعلّم والمعرفة.


وصیّة الأنبیاء والکتب السماویّة
ونحن إذ نؤکّد على هذه الحقیقة الإسلامیّة الراسخة وهذه المکانة العالیة للعلم والعلماء والمتعلّمین والمعلمین، لا نتحدّث عن العلوم الدینیّة فقط کما قد یشتبه البعض، بل نتحدّث عن کلّ علم ومعرفة تقرّب الإنسان من الله سبحانه وتعالى، وتجعل الإنسان فی خدمة أهله ومجتمعه وأمّته وکلّ البشریّة. کلّ علم نافع من هذا النوع هو العلم الممدوح، هو العلم الّذي یرفع أهله درجات في الدنیا وفي الآخرة، وهو العلم الّذی وصّى به الأنبیاء والرسل وکتب الله السماویّة.
نحن کمسلمین نقدّم جواباً واقعیّاً وعملیّاً. نعم، إن کانت هناك بعض التجارب الّتي تنسب نفسها إلى الإسلام قد ارتکبت أخطاءً قاتلة من هذا النوع، فالّذي یتحمّل المسؤولیّة هم أصحاب هذه التجربة، ولیس الإسلام ولا نبیّه ولا قرآنه الّذي من أوّل آیة فیه إلى آخر آیة یمتلئ بالمعرفة والعلم والحدیث عن الإنسان -الذکر والأنثى- في هذه الرحلة العظیمة وفي هذا الکدح الطویل إلى الله سبحانه وتعالى. هذا هو الجواب العملی. لا نحتاج إلى التنظیر ولا إلى الاستدلال ولا إلى القول بأنّ الإسلام هو لیس کذلك. القرآن یقول هذا والأحادیث تؤکّد هذا المضمون أیضاً.
وما أروع هذا الحدیث الّذي نختم به هذه الفقرة وبه نتبیّن عظمة العلم ومکانته الحقیقیّة في الإسلام، فعن أبی بصیر قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام یقول: "کان أمیر المؤمنین علیه السلام یقول: یا طالب العلم إنّ العلم ذو فضائل کثیرة: فرأسه التواضع، وعینه البراءة من الحسد، وأذنه الفهم، ولسانه الصدق، وحفظه الفحص، وقلبه حسن النیّة، وعقله معرفة الأشیاء والأمور، ویده الرحمة، ورجله زیارة العلماء، وهمّته السلامة، وحکمته الورع، ومستقرّه النجاة، وقائده العافیة، ومرکبه الوفاء، وسلاحه لین الکلمة، وسیفه الرضا، وقوسه المداراة، وجیشه محاورة العلماء، وماله الأدب، وذخیرته اجتناب الذنوب، وزاده المعروف، وماؤه الموادعة، ودلیله الهدى، ورفیقه محبّة الأخیار"(5).


لیس للعلم حدود
الإسلام یؤکّد على الحاجة إلى المعرفة والعلم والتعلّم، ولیس في مرحلة محدّدة من عمر الإنسان بل من المهد إلى اللحد. العلم لیس له حدود ولیس له نهایة، وعلى الإنسان أن یبقى عاشقاً للعلم ولا یتعاطى مع العلم فقط کوسیلة للعیش. وهذا من خصوصیّات التوجیه الإسلامیّ.
قد نتعاطى مع العلم کمصدر للعیش وکمصدر للقوّة وکمصدر لمعالجة المشکلات الّتي یعیشها الناس، ولکن علینا أن ننظر إلى العلم والمعرفة کقیمة إیمانیّة ذاتیّة أیضاً ونرتبط معه ارتباطاً عشقیّاً وحبّیّاً روحیّاً. هذا ما أکّدته ورسّخته تعالیم الإسلام.
یجب أن لا یکون لطموحاتنا العلمیّة ولا لأحلامنا العلمیّة حدود، أیّاً تکن الصعوبات الاجتماعیّة والحیاتیّة والمعیشیّة الّتي تُحیط بنا، وأیّاً تکن الظروف الّتي عشناها في السابق أو الّتی یمکن أن نواجهها في المستقبل. العلم والمعرفة بالنسبة لنا، هما مسألتان ضروریّتان لازمتان سواء في البعد الإیماني، لأنّه ﴿إِنَّمَا یَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِیزٌ غَفُورٌ﴾(6)، أم في البعد الاجتماعیّ الحضاري لأنّ الحیاة باتت متطلّباتها کبیرة وعظیمة وخطیرة جدّاً، ولأنّ الاستحقاقات المقبلة أیضاً لا مکان فیها للضعفاء. والضعفاء لیسوا فقط من لا یملکون المال ولا یملکون السلاح. أوّل الضعفاء هم الجهلة، هم الّذین یعیشون عالة على حضارات الغیر، هم الّذین لا یستطیعون أن یعالجوا مشاکلهم من خلال قدراتهم واختصاصاتهم وخبراتهم الوطنیّة والقومیّة. لذلك، إذا کنّا نؤمن بأنّنا في عالم ینتصر فیه القوي، ویُحترم فیه القوي ویبقى فیه القوي، فعندها یجب أن نبحث ونسعى للحصول على کلّ عناصر القوّة وفي مقدّمتها العلم في کلّ اختصاصاته الّتي تحتاج إلیها أمّتنا.


في مواجهة التحدّیات
ولا بأس أن، نتحدّث عن مسؤولیّة إنسانیّة ودینیّة وحضاریّة، عن مسؤولیّة تجاه أمّة، عن مسؤولیّة في المعرکة ولیس عن مسؤولیّة في دائرة الحیاة الشخصیّة. نؤکّد على المسؤولیّة العامّة لشعوب المنطقة وشعوب عالمنا العربي والإسلامي وخصوصاً على الطلّاب الجامعیّین. لیس هناك أي مشکلة في أنّ الفرد عندما یتخرّج من الجامعة یعود إلى حیاته الشخصیّة ویفکّر ویخطّط کیف یؤمّن فرصة عمل وکیف یهیّئ منزلاً وعائلة، هذا أمر طبیعي وفطري، هذا أمر مشروع ومستحبّ أیضاً فلا یُشْعِرْه أحد بعقدة تجاه هذا الموضوع أبداً. "الکادُّ على عیاله کالمجاهد في سبیل الله"(7). هذا دیننا وهذا إسلامنا.


المصادر :
1- سورة النساء، الآیة: 165
2- سورة العلق، الآیات: 1- 5
3- سورة آل عمران: الآیة:49
4- سورة المجادلة، الآیة:11
5- الکافی، الکلینی، ج1، ص48
6- سورة فاطر، الآیة: 28
7- فقه الرضا، ابن بابویه، ص208

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة