علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشهيد مرتضى مطهري
عن الكاتب :
مرتضى مطهّري (1919 - 1979) عالم دين وفيلسوف إسلامي ومفكر وكاتب شيعي إيراني، هوأحد أبرز تلامذة المفسر والفيلسوف الإسلامي محمد حسين الطباطبائي و روح الله الخميني، في 1 مايو عام 1979، بعد أقل من ثلاثة أشهر على انتصار الثورة الإسلامية، اغتيل مرتضى مطهري في طهران إثر إصابته بطلق ناري.

مفهوم الأخلاق (2)

قصّة «سَرِيّ السَقَطِيّ» (1)

يقول سَرِيُّ السَقَطِيُّ -وهو أحد العرفاء-: ثلاثون عاماً وأنا أستغفر؛ لأنّي شكرتُ اللهَ مرّة واحدة. قيل له: كيف ذلك؟ قال: كان لي دكّان في سوق بغداد، وقد أخبروني بأنّ حريقاً نشب في ذلك السوق، فذهبتُ مسرعاً لأرى، هل احترق دكّاني أو لا؟ أخبرني أحدهم بأنّه لم يحترق، وأنّ الحريق بعيد عن دكّاني، فقلتُ: الحمد لله! في ما بعد، حدّثتُ نفسي وقلت: أنتَ لم تكن وحدك في الدنيا، وقد احترق عددٌ مِنَ الدكاكين! فإذا لم يحترق دكّانك، فلا ريب في أنّ دكّان غيرك قد احترق، فمعنى قولك: الحمد لله، هو: الحمد لله أنْ لم يحترق دكّاني واحترق دكّان غيري؛ يعني قد رضيت بهذه النتيجة. فقلت في نفسي: سَرِيّ! أَوَلَا تهتمُّ بالمسلمين؟! [إشارة لحديث الرسول(صلى الله عليه وآله): «مَنْ أَصْبَحَ لَا يَهْتَمُّ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ بِمُسْلِم‏»]. وقد مضت الآن ثلاثون سنة، وأنا أستغفر من قولي: الحمد لله!

 

دعاء مكارم الأخلاق

«الصحيفة السجّاديّة» مجموعة من الأدعية المعتبَرَة جدّاً، مضموناً وسنداً، وهي من بركات الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين (عليهما السلام). وقد اهتمَّ علماء الشيعة -وما زالوا- منذ ذلك الوقت إلى الآن بهذه الصحيفة، وهي وحدها الّتي وصلت إلى أيدينا بصورة كتاب -بعد القرآن- من أواخر القرن الأوّل الهجريّ وأوائل القرن الثاني.

«نهج البلاغة» أيضاً كتاب، إلّا أنّ خطب الإمام عليّ (عليه السلام) وحِكَمَه، كانت متفرّقة بين الناس، ثمّ جَمَعَها السيّد «الرضيّ» في القرن الرابع، وأخرَجَها في صورة كتاب. وقد كانت توجد مجموعة من الكتب أقدم عهداً من كتاب «الكافي»، لكنّها لم تصل إلينا، مثل مصحف فاطمة (عليها السلام)، وكتاب عليّ (عليه السلام)، وقد ذكر بعض الأئمّة (عليهم السلام) ذلك.

باستثناء هذه الكتب، تُعَدّ «الصحيفة السجّاديّة» أقدم كتاب شيعيّ وصل إلينا بصورة كتاب، وقد كانت عند زَيد بن عليّ بن الحسين (عليهما السلام) حينما كان يحارب بني أُميَّة، حيث استشهد إثر ذلك، وقد أودعها آنذاك رجلاً؛ وهذا مذكورٌ في أوّل «الصحيفة السجّاديّة».

وكيف كان، فدعاء «مكارم الأخلاق» أحد أدعيتها، وقد ورد هذا التعبير في رواية نبويّة رواها أهل السُّنَّة، وهي قوله (صلى الله عليه وآله): «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاق‏». والتعبير الوارد في رواية الشيعة هو «عَلَيْكُمْ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَإِنَّ رَبِّي بَعَثَنِي بِهَا...». ويُحتَمَل أن يكون كِلَا التعبيرَين صَدَرا عن لسان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في مقامَين مختلفَين؛ وعلى كلّ حال فالمضمون واحد. ويُحتَمَل أن يكون الوجه في إطلاق اسم «مكارم الأخلاق» على هذا الدعاء، هو ما ورد في إحدى فقراته، وهي فقرة «وَهَبْ لِي مَعَالِيَ الأَخْلَاقِ».

يُعَدّ «مكارم الأخلاق» من أفضل النماذج وأحسنها الّتي تُعرِّف بـ«مدرسة الإسلام الأخلاقيّة»، وقد كانت إحدى أمنيّاتي منذ سنين، أن أُوَفَّق لشرح هذا الدعاء وترجمته إلى الفارسيّة، وأن أشرح كلّ ما ورد فيه من نكات فلسفيّة، وأقدّم ذلك خدمةً للناطقين باللغة الفارسيّة. آمل منه تعالى أن يلحظني بعنايةٍ ببركة الوجود المقدَّس لعليّ بن الحسين (عليهما السلام)، ويوفّقني لذلك. ولكن، من المناسب هنا أن أشير إلى فقرات من هذا الدعاء، ترشدنا إلى ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان في الإسلام، ولا شكّ في أنّ الإمام السجّاد (عليه السلام) نفسه مستجمِعٌ لتلك الفضائل الإنسانيّة، لكنَّه يريد منَّا أن نكون كما يحبّ، وأن نَرقى إليه.

«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَسَدِّدْنِي لأَنْ أُعَارِضَ مَنْ غَشَّنِي بِالنُّصْحِ، وَأَجْزِيَ مَنْ هَجَرَنِي بِالْبِرِّ، وَأُثِيبَ مَنْ حَرَمَنِي بِالْبَذْلِ، وَأُكَافِيَ مَنْ قَطَعَنِي بِالصِّلَةِ، وَأُخَالِفَ مَنِ اغْتَابَنِي إِلَى حُسْنِ الذِّكْرِ، وَأَنْ أَشْكُرَ الْحَسَنَةَ، وَأُغْضِيَ عَنِ السَّيِّئَةِ».

أليست هذه أفكاراً جديرة بأعلى مراتب التقدير؟ أليس لها قيمة؟ وما نوع قيمتها؟

هل الإنسان الّذي يحمل هذه الروح السامية -في نظرنا- صاحب قلب كبير طاهر، سواء كنّا راغبين في ما سأل أم لا، وسواء كنّا عاملين بهذه الخصال أم لا؟ أين يكمن سرّ هذه الأخلاقيّة والرغبات والأفكار؟

يقول الخواجة عبد الله الأنصاريّ، وقوله يُنبئ عن مكانته: «مقابلةُ الإساءةِ بمثلها شأنُ الكلبِ، ومقابلةُ الإحسانِ بمثله شأنُ الحمارِ». فإذا أساء إنسانٌ لآخر، فمقابلتُه بمثلها ديدنُ الكلاب؛ لأنَّها تعضّ بعضها بعضاً، كما أنّه ليس فضلاً أن يقابل الرجلُ إحسانَ الآخرين بمثله؛ لأنَّه حتّى الحمير تفعل ذلك، ولا أدري إن كنتم رأيتم ذلك أو لا، لكنّ كلّ قرويٍّ مثلي يرى ذلك؛ فإذا ما لامس حمارٌ وَجْهَ آخر، بادر الآخرُ إلى ذلك.

نعم، مقابلة الإساءة بالإحسان شأن عبد الله الأنصاريّ، وفي هذا الأُفق نقرأ شعراً للإمام عليّ (عليه السلام) في الديوان المنسوب إليه:

وذي سَفَهٍ يواجهني بجهلٍ

وأَكرَهُ أن أكونَ لهُ مُجيباً

يَزيدُ سفاهةً وأَزيدُ حِلْماً

كَعُودٍ زادَهُ الإحراقُ طِيباً

نعم، إنَّه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، صاحب الصدر الرحب والخُلُق الرفيع. ثمّ إنَّه ليس المراد بالسفيه: «المجنون»، فإنَّه لا لوم عليه؛ بل يُرادُ به مَن يفتقد الرشد الفكريّ؛ وإلّا لو كان ذا رشد، لكان لعلمِه السيّئ جنبةٌ اجتماعيّة، فلا مجال للعفو والصفح.

 

السوقيّ ومالك الأشتر

وتلمس هذا مجسّداً في سيرة تلميذ الإمام عليّ (عليه السلام) «مالك الأشتر»؛ فقد ذكروا أنّه كان ذات يوم مجتازاً بسوق الكوفة، وعليه قميص خام وعِمامة منه، فرآه بعض الباعة، فأزْرَى بِزيِّه ورماه ببندقةٍ إهانةً له، فمضى «مالِك» ولم يلتفت إليه، فقيل للبائع: وَيلَك! أَتَعرِفُ مَنْ رَمَيْتَ؟ فقال: لا، فقيل له: هذا «مالِك» صاحبُ أمير المؤمنين (عليه السلام)، فارتعد الرجل وهرول ليعتذر إليه، فرآه قد دخل مسجداً وهو قائمٌ يُصلِّي، فلمّا انفتل من صلاته، انكبَّ الرجلُ على قدمَيه يُقبّلهما، فقال «مالك»: ما الأمر؟ قال: أعتذر إليك ممّا صنعت. فقال: لا بأس عليك، فوالله، ما دخلتُ المسجدَ إلّا لِأستغفِرَنّ لك .

 

الإمام الحسين (عليه السلام) والشاميّ

الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) كانوا قمّة شامخة في الخُلُق، والكتب مشحونة بما يدلّ على ذلك، ومنها حكاية رجل من أهل الشام يُدعى «عصام بن الـمُصْطَلقِ»، وردَ المدينة فرأى رجلاً ذا جلال وهيبة، فلفت نظره، فسأل عنه، فقيل: هو الحسين بن عليّ بن أبي طالب، يقول عصام: فأثار من الحسد ما كان يخفيه صدري لأبيه من البُغض، فقلت له: أنت ابن أبي تراب؟ فقال (عليه السلام): «نَعَمْ».

[قال الراوي:] فبالغتُ في شتمه وشتمِ أبيه، فنظر إليَّ نظرة عاطف رؤوف، ثمّ قال: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، ﴿خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ - وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ نَزۡغ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِف مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ - وَإِخۡوَٰنُهُمۡ يَمُدُّونَهُمۡ فِي ٱلۡغَيِّ ثُمَّ لَا يُقۡصِرُونَ﴾».

ثمّ قال (عليه السلام) لي: «خَفِّضْ عَلَيْكَ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكَ، إِنَّكَ لَو اسْتَعَنْتَنَا لَأَعَنَّاكَ، وَلَو اسْتَرْفَدْتَنَا لَرَفَدْنَاكَ، وَلَو اسْتَرْشَدْتَنَا لَأَرْشَدْنَاكَ». قال عصام: فتوسَّمَ مِنّي الندمُ على ما فرطَ مِنّي.

فقال (عليه السلام): «﴿لَا تَثۡرِيبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَۖ يَغۡفِرُ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ﴾، أَمِنْ أهلِ الشامِ أنت؟ قلت: نعم. فقال (عليه السلام): «شِنشِنَةٌ أعْرِفُهَا مِنْ أَخْزَم، حَيَّانَا اللهُ وَإِيَّاكَ، انْبَسِطْ إِلَيْنَا فِي حَوَائِجِكَ وَمَا يَعْرِضُ عَلَيْكَ، تَجِدنِي عِنْدَ أَفْضَلِ ظَنِّكَ، إِنْ شَاءَ اللهُ».

قال عصام: فضاقت عَلَيَّ الأرضُ بما رَحُبَت، وودَدْتُ لو ساخَت بي، ثُمَّ سللتُ منه لواذاً، وما على الأرض أَحَبُّ إِلَيَّ مِنه ومِن أبيه.

يَزيدُ سفاهةً وأَزِيدُ حِلْماً

كَعُودٍ زادَهُ الإحراقُ طِيباً

 

حِلية المتّقين

بعد الفقرة السابقة، يُصلِّي الإمام على الرسول وآله مرَّتَين، ثمّ يتابع الدعاء: «وَحَلِّنِي بِحِلْيَةِ الصَّالِحِينَ، وَأَلْبِسْنِي زِينَةَ الْمُتَّقِينَ». فما الحِلْيَة الّتي يطلب (عليه السلام) التحلِّي بها؟ وما اللباس الجميل الّذي يودّ (عليه السلام) التزيّن به؟ في الفقرات الآتية، يوضّح الإمام (عليه السلام) ذلك، فيقول: «فِي بَسْطِ الْعَدْلِ، وَكَظْمِ الغَيْظِ، وَإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ، وَضَمِّ أَهْلِ الْفُرْقَةِ، وَإِصْلاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَإِفْشَاءِ الْعَارِفَةِ، وَسَتْرِ الْعَائِبَةِ، وَلِينِ الْعَرِيكَةِ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ».

إذاً، زينة الصالحين وجميل لباس المتّقين هو هذه الخصال المرضيّة من نشر العدل وكظم الغيظ؛ بمعنى: ضبط النفس ولجمها ومنعها من الانتقام والتشفّي؛ والغيظ هو شدَّة الغضب وهيجانه، وهو عقدة نفسيّة يجب علاجها، كما تُعالَج الغدّة السرطانيّة بتسليط الأشعّة عليها حتّى تتلاشى.

ومن ذلك: «إِصْلاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ»؛ بمعنى إحلال السلام وإيجاد التوافق والوئام بين المؤمنين والمسلمين. ومن ذلك: «إِفْشَاءِ الْعَارِفَةِ»؛ أي إذاعة محاسن الآخرين ونشر فضائلهم، والإشادة بجهودهم الخيِّرة وسيرتهم الصالحة. و«سَتْرِ الْعَائِبَةِ»؛ أي ستر معايب الآخرين والغضّ عن مساوئهم وسترها. وهذه جميعاً داخلة ضمن المسائل الأخلاقيّة. نعم، المسائل ذات البُعد الاجتماعيّ والأثر العام، ليست مقصودة هنا، بل لها تعاليم وأحكام أخرى تعرَّض لها الدعاء في فقرات مستقلّة.

وكيف كان، فينبغي للمؤمن أن يسعى لتجميل سيرة الآخرين، وخلقِ جوٍّ مِن حُسن الظنّ المتبادَل بين الإخوة المؤمنين، وهذا إنَّما يكون عن طريق الإشادة هنا وهناك بالخصال الممدوحة والسيرة المحمودة، والتستّر على المساوئ وإغضاء البصر عنها، وهذا الأمر في نفسه وظيفة إسلاميّة، فضلاً عن أنّه عامل مساعد في تقليل مساوئ الآخرين؛ لأنَّ مَن لديه مساوئ ومحاسن، إذا رأى المجتمع ينظر إلى محاسنه ويتجاهل مساوئه، فسيسعى بدوره إلى إزالتها وتقليلها، وخلافُ ذلك من المجتمع يؤدّي إلى خلافِ ذلك من الفرد؛ بمعنى أنّه سيُصابُ بخيبةِ أملٍ في محاسنه؛ ممّا يؤدّي إلى طغيان المساوئ عليها.

 

نهي القرآن عن إشاعة الفاحشة

ولهذا يقرع القرآن أسماعنا بنهيه الشديد عن إشاعة الفاحشة والمساوئ، حتّى الواقعيّة منها. يقول تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلۡفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيم﴾. وموردُ الآية هو المساوئُ الواقعيّةُ للمؤمنين، وإلّا فبهتانُهم والتقوُّلُ عليهم عذابُه أشدُّ. وفي الحديث: «إِذَا اتَّهَمَ المُؤْمِنُ أَخَاهُ، انْمَاثَ  الإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ كَمَا يَنْمَاثُ المِلْحُ فِي المَاءِ»؛ ولهذا السبب عينِه حُرِّمَت «الغيبة»، لأنّها تخلق في المجتمع الإيمانيّ حالةً من إساءة الظنّ والنظر بعين الريبة، عِلماً بأنَّ «الغيبة» عبارة عن إفشاء المساوئ الواقعيّة للفرد وللآخرين.

 

موارد مستثناة للغيبة

نعم، توجد موارد مستثناة من التحريم، وهي جميعها ذات بُعدٍ اجتماعيّ صرف. من باب المثال: الاستيضاح وطلب المشورة؛ كما لو أراد رجلٌ مشاركة آخر، فيستنصح ويستشير مَن لديه معرفة واطّلاع على أخلاقيّات «الشريك» وسلوكه؛ ليرى مدى صلاحيّته للشركة، وكذا الحال في التزويج للبنت أو الابن، وغير ذلك. وفي مثل هذه المواطن، يجب على المستشار إظهار الحقيقة، وإخلاص النصيحة، وإعطاء المستنصِح حقَّه. ومن الموادّ المستثناة: إظهار المظلوميّة؛ فمن اغتُصِبَ مالُه، له كامل الحقّ في فضح الغاصِب أمام الملأ؛ لأنّ أَمْرَه يدور بين أمرَين: إمّا السكوت على مضض، ومن ثمّ يذهب حقّه هدراً، وإمّا إعلام المجتمع بظلامته، فهذه غيبة، لكنّها جائزة، لقوله تعالى: ﴿لَّا يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوٓءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ﴾.

وأنا إذ أُبيِّن هذا، فلكي نُحذِّر من الإفراط والتفريط؛ لأنَّ عيب المجتمع الإسلاميّ، كما يعكسه التاريخ -ولا سيّما نحن الإيرانيّين- هو انعدام «الوسطيّة»؛ بمعنى إمّا أن نُفرّط وإمّا أن لا نفرّط، إمّا أن نملأ أفواهنا بالغيبة ونلوك الآخرين بألسنتنا، وإمّا أن نصل إلى درجة نُحرّم فيها غيبة «الحجّاج»، ونعدّها ذنباً يجب الاستغفار منه، كما هو رأي ابن سيرين.

 

اشتباه ابن سيرين والغزّاليّ

يروي لنا التاريخ أنّ «ابن سيرين» -أحد العلماء الإيرانيّين في القرن الثاني الهجريّ- كان يتحرّج من ذكر «الحجّاج» بسوء، فحدث أنّ أحدَهم ذكره بسوء ووقع فيه، فقال له المقدَّس ابن سيرين زاجراً: مَه! لا تغتبه؛ فإنَّ ذَنْبَ اغتيابِك أعظمُ مِن ذَنْبِ الحجّاج نفسه! فهل سمعت بهذا الهراء؟! والعجيب أنّ «الغزّاليّ»، مع عظمة مقامه، ينقل هذا ويؤيّده!

إنّ «الغزّاليّ»، على الرغم من تفوُّقه العلميّ وعمق أفكاره، وقع هنا في اشتباه كبير، والرجال الكبار عندهم أخطاء كبيرة أيضاً، وكما يذكر ابن الجوزيّ، فإنّ من أخطاء «الغزّاليّ» هو إضفاء الصبغة الصوفيّة على الأحكام الشرعيّة في كثير من الموارد؛ ممّا تسبَّب في مزالق فقهيّة، كما في مسألتنا هذه. وليتَ شعري، إذا حُرِّمَت علينا غيبة «الحجّاج»، فمَن يجوز لنا اغتيابه وفضحه؟! فبحسب ما يراه هؤلاء، لا تجوز غيبة يزيد بن معاوية! هذا الّذي نفضحه فوق المنابر ليلاً ونهاراً، ونذكر للملأ مظالمه وبوائقه! وعلى هذا، فالله تعالى قد اغتاب فرعون ونمرود وقارون وبَلْعَم بن باعُورا، ومئات الأفراد، بل وأقواماً بأكملها، كبني إسرائيل!

عَوداً على بدء، نقول:

إنَّ هذه الفِقرات القليلة من هذا الدعاء، لَهِيَ مرآةٌ جليّةٌ تعكس لنا السموّ الروحيّ والرُّقيّ الأخلاقيّ لصاحبه، وكلُّ إناءٍ بما فيه يَنْضَحُ ، وإنسانٌ كهذا لهو المستحِقّ للتقديس حقّاً؛ لأنَّه تجاوزَ ذاتَه، وهذه هي الـمَلَكات الفاضلة والسجايا الخالدة، ويجب علينا أن نعرف سرّ عظمتها ومكمَن جلالها؛ كي نسعى مثابِرين لتحصيلها.

وتوجد مدارس مختلفة أَدْلَتْ بدلائها في تحديد البنية التحتيّة والركيزة الفلسفيّة للأخلاق، وبيان الأُطُر والدوافع الّتي تميّز السلوك الأخلاقيّ من غيره، وسوف نتعرّض لهذه المدارس والنظريّات المطروحة؛ لنعرف الجيّد من الرديء، والغثّ من السمين، كما سنبيِّن الرؤية الإسلاميّة الأصيلة على ضوء القرآن الكريم والسنَّة الشريفة.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أبو الحسن السَّريّ بن مُغَلَّس السَّقَطِيّ: من مشاهير صوفيّة بغداد وعرفائها، ومن كبار رجال الطريقة، وهو تلميذ بشر الحافي وصاحبه، ومرشد ابن الجنيد البغداديّ، وخاله أيضاً. تُنسَب إليه الكثير من الأقوال العرفانيّة والحكميّة. تُوفّي العام 245 أو 250 أو 251 أو 253 أو 257 هجريّ.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد