علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

العرفان الإسلامي

يذهب بعض العلماء الأجانب [المستشرقين وأضرابهم] إلى أنّ العرفان الإسلامي مستقى من العرفان الهندي؛ وإلّا فإنّ ثقافة الإسلام نفسه لا تعدو أن تكون مجموعة من العقائد البسيطة الجامدة وسلسلة من العبارات الجافّة!

 

أما بالنسبة إلى جوابنا على هذه الشبهة فينبغي أن نوضّح أولًا أننا لا نريد الدفاع (مطلقًا) عن العرفاء الإسلاميين، ولا أن نصحح الطرق المختلفة التي انتهجت في مسار السير والسلوك، ولا أيضًا أن نضفي الاستقلال على طريقتهم في مقابل الهنود. وكذلك الحال بالنسبة لبحثنا عن أسلوب الاستدلال، إذ لم يكن قصدنا أن نسبغ الصحة المطلقة على محتويات جميع الكتب الفلسفية التي خطّها يراع الفلاسفة المسلمون. نفس الكلام يقال عن أسلوب (التربية والتعليم) من خلال الظواهر الدينية... إذ لم يكن المقصود الحكم بالصحة على أسلوب عامة المسلمين كيفما كان ومن أي مكان صدر، وإنما هدفنا في هذا المقال هو فقط وفقط المرور إجمالا على مدارك الاسلام الأصلية الماثلة بالكتاب والسنة دون أن نتعرّض لا بالنفي ولا بالإثبات لأعمال أو أقوال كل فئة من الفئات.....

 

لقد أشاد هؤلاء العلماء دعوتهم على أصل التطوّر الذي أشيدت عليه الأفكار العلمية ووجّه على أساسه مسار التحوّل والتكامل في الحادثات الطبيعية (الوجود الطبيعي) وبدوره عاد هذا الأصل ليعمّم على الحوادث كافة، بما في ذلك العادات والرسوم والمظاهر الغريزية والآثار الفطرية، بما فيها الجانب المعنوي، بحيث أضحى التقليد أنّ أصل - كلّ حادثة يكمن في التفتيش عن جذورها في الأحداث السابقة. وفق هذا المنهج بالذات زعموا أنّ القوانين الإسلامية أخذت من قوانين الروم، والعقائد الإسلامية اقتبست من الأفكار الفلسفية لفلاسفة اليونان؛ بل ذهب البعض إلى ما هو أبعد من ذلك حين قالوا إنّ العقائد الدينية هي الصيغة المتكاملة التي ولدت نتيجة مسار تحوّل وتكامل الأفكار من عهد الأساطير!

 

إنّ ما يلاحظ على وجهة نظر هؤلاء العلماء أنها سلكت طريقًا خاطئًا من جهتين: فمن ناحية تصوّروا أنّ ما نسميه بالإدراك العرفاني هو من نوع الإدراك الفكري العادي؛ وبالتالي فإنّ ما يستخلصه ويصل إليه أهل العرفان من معلومات عن طريق التهذيب وتنقية الباطن هو من نوع الأفكار الشاعرية، تمامًا كما يحصل للشاعر حين ينسج الأفكار بالاستعانة بعاطفته الملية ولسانه الجميل الذرب، فتكون الحصيلة أفضل مما يقوم به عالِـم رباني.

 

نظير هذا الخطأ جرى على طبيعة إدراك هؤلاء للوحي الذي هو تعبير عما يدركه الأنبياء من السماء، ووسيلة لتلقّي المعارف الإلهية والقوانين السماوية. فإدراك هؤلاء أفضى بهم إلى أن ينظروا إلى أفكار اليونان وقوانين الروم بوصفها الجذر الأصلي لعقائد الإسلام وقوانينه.

 

هذا المعنى يتمثل على نحو جلي بما كتبه هؤلاء العلماء في بحوثهم عن النبوة وطراز تفكير الأنبياء، فيما نجد أنّ ما بين أيدينا من بيانات الأنبياء - أعم من أن تكون كاذبة أو صادقة - تخطّئ هذا الرأي وتكذبه.

 

أما الجهة الثانية في الخطأ فتمثل في أننا إذا قبلنا أصل التطوّر واعتبرناه من الثوابت والمسلمات، فإنّ أصل ظهور الغريزة في النوع يجب أن لا يكون له صلة بالأصل المذكور. ذلك أنّ الغريزة التي أودعت حسب نظام الخلق (والتكوين) في بنية ذلك النوع، تبدأ بالظهور في فرد ذلك النوع - إن لم يكن هناك مانع خارجي - سواء أكان هناك سابقة في العمل أم لم تكن.

 

على سبيل المثال، نستطيع أن نقول إنّ العرب أخذوا من العجم مسألة التنوّع في الغذاء، بيد أنّا لا نستطيع أن نقول أنّ العرب إنّ تعلموا من العجم أصل عملية الأكل.

 

كذلك نستطيع أن نقول إنّ الديمقراطية والتشكيل الإداري (النظم الإدارية) سرت من الغرب إلى الشرق، بيد أنّ هذا الكلام لا يصح في أصل بناء المجتمع وتأسيس الحكومة.

 

لذا فإنّ طريق التهذيب وتنقية الباطن - الحياة المعنوية والذوق العرفاني - هي مسألة غريزية مودعة في بنية الإنسان وتكوينه، وإنّ الغريزة تستيقظ بالاستعداد وارتفاع الموانع، فيسير الإنسان في هذا الطريق.

 

وبوجود الأديان والمذاهب التي لها هذا الحجم أو ذاك من الصلة بعالم الأبدية وما وراء الطبيعة، فإننا من المؤكد سنجد بين أتباع هذه الأديان والمذاهب أشخاصًا يقودهم استيقاظ الحس المودع فيهم إلى أن تنقطع قلوبهم عن علائق هذه الدنيا العابرة المليئة بالآلام والإحباط، ويتحولون إلى الأفق الطلق، فيولّون وجوههم نحو عالم الأبدية.

 

أما من الناحية العملية فإنّ من بين أتباع كل دين أو مذهب ينتسب إلى اللّه بهذا القدر أو ذاك، ثلّة من العشاق الولهين بالحياة المعنوية والنهج العرفاني.

 

وحين نقوم بمقارنة الجانب المعنوي فيما تنطوي عليه أصول الأديان والمذاهب التي بين أيدينا، نرى بوضوح أنّ المتون الأصلية للإسلام تميل أكثر من أي دين أو مذهب آخر إلى وصف السعادة الأبدية للإنسان وعالم الخلود.

 

وبذلك يتأكد أنّ نهج التهذيب وتنقية الباطن في الإسلام هو أمر طبيعي دون الحاجة إلى ربط أصل وجود هذا النهج بالهند أو بمصادر وأماكن أخرى.

 

علاوة على ذلك، يؤكد لنا التأريخ عبر الوقائع الثابتة أنّ عدّة من أصحاب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) من أمثال سلمان وكميل ورشيد وميثم وأويس عاشوا في إطار النهج التعليمي التربوي للإمام حياة معنوية زاخرة، في حين لم تكن أقدام المسلمين قد وطأت الهند حتى ذلك الوقت أو اختلطت مع الهنود.

 

ثم إنّ دعوى اتصال السلاسل المختلفة للتصوّف في الإسلام بالإمام علي (عليه السلام) ونسبتها إليه (بغض النظر عن صدق النسبة أو كذبها) هي أمر يقودنا إلى التسليم بما ذكرناه أعلاه - من استقلال العرفان الإسلامي ونشوئه في البيئة الخاصة للثقافة الإسلامية -.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد