علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

صور العلوم الذهنية

اعلم أن المعاني التي عندنا وهي صور علومنا الذهنية على قسمين:

 

أحدهما المعاني التي تقع على الموجودات الخارجية في نفسها مطابقة بها ومعها بحيث أنّها في نفسها كذلك سواء انتزعنا منها تلك المعاني وتعقلناها وأوقعنا عليها هذه المعاني أولاً وذلك كمعنى الأرض والسماء والكواكب والإنسان، فإن مطابقات هذه المعاني موجودة في الخارج في نفسها، سواء انتزعنا منها هذه المعاني وتعقلناها في أذهاننا وأوقعنا المعاني المنتزعة عليها أولاً، وهذه المعاني هي التي نسميها الحقائق.

 

وثانيهما المعاني التي نوقعها على الأمور الخارجية، لكنها بحيث لو أغمضنا وقطعنا النظر عن التعقل والتصور لم يكن لها في الخارج تحقق ولا لها وقوع، وذلك كمعنى الملك مثلاً، فإنّه معنى به يتمكن المالك من أنحاء التصرفات في العين المملوك من غير أن يزاحمه فيها أحد من نوعه، وكمعنى الرئاسة فإنها معنى بها يتمكن الإنسان الرئيس من إدارة الأمور في حوزة رئاسته وجلب طاعة مرؤوسيه، لكنّا إذا تأملنا في مورد هذين المعنيين لم نجد هناك في الخارج إلّا إنسانًا وعينًا خارجية مثلًا، ولم يكن لولا تعقلنا وتصورنا في الخارج عين ولا أثر من معنى الملك والمالك والمملوك والرئاسة والرئيس والمرؤوس، ولذلك نرى في هذا القسم من المعاني من التغير والتبدل والاختلاف بحسب اختلاف أنظار العقلاء، ما لا يتحقق ذلك في قسم الحقائق البتة، فترى أمّة من الناس تعقد على ملكية شيء لا تعقد عليها آخرون، ويذعن برئاسة إنسان لا يذعن بها فيه آخرون، والحقائق لا يمكن فيها ذلك، فالإنسان إنسان عند الكل ودائمًا، وسواء تعقلوا معنى أنّه إنسان أو لم يتعقلوا ذلك.

 

وهذه المعاني غير الحقائق، حيث إنّها ليست في الخارج حقيقة ففي الذهن لكنها ليست متحققة في الذهن بإيجاده واختلافه إياها من غير استعانة بالخارج، فإن الذهن يوقعها على الخارج بتوهمها أنّها في الخارج، ووقوعها على الأمور الخارجية على وتيرة واحدة من غير اختلاف وتغير من هذه الحيثية، فالكلام وهو الصوت المؤلف الدال على معنى بالوضع كلام ولا يصدق عليه الملك مثلاً والرئاسة مثلاً ولا غيرها، ولو كانت بإيجاد من الذهن من غير ارتباط واستعانة من الخارج لكانت إما غير صادقة على الخارج أصلاً، وإما واقعة على جميع ما في الخارج لاستواء النسبة مع عدم الرابطة.

 

فثبت أن انتزاع الذهن إيّاها إنّما هو بالاستعانة من الخارج، أي من المعاني الحقيقية التي عند الذهن، وحيث إن هذا الارتباط ليس بالحقيقي لعدم تحققها في الخارج، فهو وهمي بتوهم الذهن أنّها هي المعاني الحقيقية وهي إعطاء حد الأمور الخارجية لها، فهذه المعاني تتحقق بإعطاء الذهن حد الأمور الحقيقية لما ليس لها، ووضعها فيما ليست فيه، فهي معان سرابية وهمية مثلها بين المعاني مثل السراب بين الحقائق والأعيان، وهذا القسم من المعاني هي التي نسميها بالاعتباريات والوهميات، والقسم الأول خارجية حقيقية، وهذا القسم الثاني ذهنية وهمية غير حقيقية.

 

هذا ثم إنّا إذا أخذنا نتأمل الموجودات الخارجية الحقيقية وركزنا التأمل في كل واحد منها بالأخذ بمجموع دائرة وجوده من حين يظهر في الوجود ثم يديم بقاءه وحياته المختصة به حتى ينتهي إلى البطلان والعدم، ورددنا كل أمر يرتبط به من حيث هو مرتبط إلى داخل محيط هذه الدائرة المفروضة بحيث لا يشذ منه شيء منها ولا يدخله شيء غيرها، وجدنا هذا المجموع يسوي في الوجود أمرًا واحدًا حقيقيًّا وموجودًا متفردًا،كل جزء من أجزاء المجموع المفروض يرتبط بالآخرين بروابط خاصة بها قضية للوحدة الحقيقية الموجودة، وهذا لا شك فيها ولا ريب.

 

ثم إذا حللنا هذا الموجود الواحد على سعة دائرة وجوده وجدناه على كثرة أجزائه وجهاته ينحل إلى أمر ثابت في نفسه كالأصل وأمور أخر تدور عليه وتقوم به، كالفروع تتفرع على الأصل، وهذا الأصل هو الذي نسمّيه بالذات، وهذه الفروع هي التي نسميها بالعوارض واللواحق ونحو ذلك، وهذا معنى سار في كل موجود في وعاء الوجود، مثال ذلك الإنسان فإن فيك أمرًا تحكي عنه بلفظ أنا وكل معنى غيره مرتبط به ومتفرع على هذا الذات المحكي عنه بأنا هذه وهذا المجموع المؤلف من الذات والعوارض نسميه بالنظام الجزئي في الموجود الجزئي والمجموع المؤلف من جميع هذه النظامات الجزئية التي في ظرف الوجود نسميه بنظام الكل.

 

ثم نقول إن لكل موجود حقيقي نظامًا حقيقيًّا خارجيًّا ذا أجزاء حقيقية، فذاته من حين يظهر في الوجود يصحب معه شيئًا من عوارضه اللازمة وغير اللازمة، ثم يرد عليه سلسلة عوارضه واحدًا بعد واحد، ولا يزال يستكمل بها حتى يتم ذاته في عوارضه تمامًا وكمالًا إن لم يعقه عائق، فينتهي به الوجود المختص به وهو حياته فيبطل وينعدم ببلوغه أجله، فهو بحسب التمثيل كالشمس عند الحس تطلع من أفق ثم تحاذي نقطة بعد نقطة وتجري حتى تغرب في أفق آخر.

 

وجملة الأمر في هذه النظامات أن لحوق العوارض بالذات باقتضاء ما من الذات لها بمعنى أن الذات لو وضع وحده من غير مانع تبعه عوارضه بارتباط معها في الذات وهذه كلها أصول كلية عامة بديهية أو قريبة من البداهة.

 

ثم إن هذا الاقتضاء من الذات لعوارضه مقرونة في الإنسان بالعلم، فهذا النوع يميز الملائم عن غير الملائم بالعلم والإدراك، ثم يتحرك وينحو نحو الملائم ويهرب عن المنافر المنافي وبعض الأنواع الأخر من الحيوان أيضًا حاله حال الإنسان ولسنا نعلم هل حال كل نوع من الموجودات الجسمانية حال الإنسان لعدم وفاء الحس والتجارب، وإن قام بعض البراهين في العلم الإلهي على أن العلم سار في جميع الموجودات.

 

وبالجملة حيث كان تميز الملائم عن غيره بالعلم والذات مقتض للملائم ومتأبّ عن غير الملائم والحركة إلى الملائم عن إرادة وعلم والحركة عن غير الملائم عن إرادة وعلم، تحقق هناك بالضرورة بالنسبة إلى الملائم صورة علمية ذهنية مخصوصة، وبالنسبة إلى غير الملائم صورة أخرى مخصوصة، وهما صورة اقتضاء الذات لأمر، وصورة تأبّيها عن أمر، فللاقتضاء صورة وهي وجوب الفعل في قولنا يجب أن يفعل كذا انتزعتها النفس عن نسبة الضرورة في القضايا الحقيقية الخارجية ولعدم الاقتضاء صورة وهي حرمة الفعل أو وجوب عدمها في قولنا يحرم أو يجب أن لا يفعل كذا انتزعتها النفس عن نسبة الامتناع في القضايا الحقيقية الخارجية، وللمقتضى بالبناء للمفعول صورة ولعدم المقتضى المتأبي عنه بالبناء للمفعول صورة أخرى، والظاهر أن النفس ينتزعها فيهما من نسبة بعض أجزاء الشخص بالنسبة إليه أو شخصه بالنسبة إلى شخصه ومن نسبة عدم شخصه أو عدم بعض أجزاء شخصه بالنسبة إلى شخصه، وهذا هو الذي يوجب الحركة إليه أو الهرب منه فافهم.

 

وهذا المقدار من الاعتبار كالمادة الأولى بالنسبة إلى الاعتبارات التالية قاطبة، ويسري هذا الحكم ويتكثر أقسام الاعتبار ويختلف بتكثر حوائج الإنسان واستقباله النواقص التي تصادف ذاته، ويمكنك التحقق بما ذكرنا واختبار الحال في ذلك بالتدبر في حال الطفل الإنساني وتدرجه في الحياة، وكذلك باختبار حال بعض الحيوان مما الاجتماع في نوعه محدود ساذج والتميز في أوهامه سهل يسير.

 

ثم إن الإنسان الفرد لا يتم له وحده جميع كمالاته الملائمة لذاته لكونه في جميع جهات ذاته محتاجًا إلى التكامل وتفنن احتياجاته الحيوية مع احتفاف كل واحد من كمالاته بما لا يحصى من الآفات، ولذلك فهو بالفطرة مضطر إلى الاجتماع والتعاون والتمدن مع أمثاله والحياة فيهم، حتى يقوم كل فرد بجهة أو جهات معدودة من خصوصيات كمالاتهم بما يسعه طاقته ويعيشوا بنحو الاشتراك، وهاهنا وقعت الحاجة إلى التفهيم والتفهم، فابتدأ ذلك بالإشارة ثم كمل بالصوت ثم تمم ذلك بتمييز الأصوات المختلفة للمقاصد المختلفة.

 

والدليل عليه ما نشاهده في الحيوان العجم، فإن فيها دلالة على المقاصد بالأصوات وتعدادها كثرة وقلة بالنسبة إلى اجتماعاتها كصوت النزاع وصوت السفاد وصوت التربية وصوت الإشفاق وغير ذلك مما بينها، وهذا الأمر يكتمل ثم يكتمل حتى يصير اللفظ وجودًا لفظيًّا للمعنى لا يلتفت عند استماعه إلّا إلى المعنى ويسري الحسن والقبح من أحدهما إلى الآخر.

 

ثم إن اشتراك المساعي في الحياة واختصاص كل فرد بما يهيؤه يوجب اعتبار الملك في المختصات وأصله الاختصاص وكذا اعتبار الزوجية واحتياج الكل إلى ما في أيدي آخرين يوجب اعتبار التبديل في الملك والمعاملات المتنوعة من البيع والشراء والإجارة وغيرها وحفظ النسبة بين الأشياء القابلة للتبديل من حيث القلة والكثرة والابتذال والعزة وغير ذلك، يوجب اعتبار الفلوس والدينار وهو شيء يحتفظ به نسبة الأشياء القابلة للتبديل بعضها مع بعض.

 

ثم إن هذه التقلبات غير المحصورة لا يختلف من وقائع جزئية معتدلة وأخرى يقع فيها الظلم والتعدي والإجحاف، فالأفراد في أخلاقها مختلفة والطبائع إلى التعدي وتخصيص المنافع بنفسها ومزاحمة غيرها مجبولة وحين إذ ذاك وقع الاحتياج إلى قوانين يحفظ بها الاعتدال في الاجتماع، وإلى من يحفظ هذه القوانين وإلى من يعتضد به لذلك فينشعب إذ ذاك اعتبار الرئاسة والرئيس والمرؤوس والقانون وغير ذلك.

 

ويتفرع على ذلك اعتبارات أخر ولا يزال يتبع بعضها بعضًا حتى ينتهي إلى غايات بعيدة طوينا الكلام عن شرحها لعدم وفاء المقام بذلك، وقد فصلنا القول في أنواعها وأقسامها في كتاب الاعتبارات.

 

هذا وبالجملة فهذه الاعتبارات لا تزال تتكثر بكثرة مسيس الحاجة حتى تنفذ وتسري في جميع جزئيات الأمور المربوطة بالإنسان الاجتماعي وكلياتها ويتلون الجميع بهذه الألوان الوهمية وتتلبس بهذه الملابس الخيالية، بحيث إن الإنسان الذي يتقلب بينها بواسطة الإدراك ويقصدها ويتركها ويحبها ويكرهها ويرغب فيها وينفر عنها ويرجوها ويخاف منها ويشتاقها ويعافها ويلتذ بها ويتألم منها ويختارها ويتركها بالحسن والقبح والوجوب والحرمة والنفع والضر والخير والشر بواسطة العلم والإرادة، لا يشهد منها إلّا هذه المعاني السرابية ولا يحس منها إلّا بهذه الوجوه فحياة الإنسان وهي حياة اجتماعية مربوطة بهذه الأسباب محدودة بهذه الجهات متقلبة في هذه العرصات لو وقعت حينًا ما في خارجها كالحيتان خارج المياه بطلت وخمدت.

 

وأنت إذا أجلت النظر وأدرت الفكر في بعض الموجودات ونظامها الطبيعي كالمركبات النباتية مثلاً، رأيت فرجار حياتها في إدامة بقائها يدور على التغذية والنمو وتوليد المثل، ورأيت ذاتها يفعل هذه الأفعال باقتضاء من نفسه من غير استعانة بالخارج عنه، ويتمم ويستكمل هذه الجهات بأفعال وانفعالات ذاتية طبيعية بجذب ودفع ويديم بها أمره حتى ينتهي إلى البطلان، ونظامه نظام طبيعي غير متوسط في جريانه غيره، وإذا رجعت إلى الإنسان وجدت هذا النظام الطبيعي منه محفوفًا بمعان ليس لها وجود في الخارج وهمية باطلة لا يحس الإنسان إلّا بها ولا يماس الأمور الطبيعية إلّا من وراء حجابها، فالإنسان لا يريد ولا يروم في دائرة حياته إلّا إيّاها ولا ينسج إلّا بمنوالها لكن الواقع من الأمر حين ما يقع هو الأمور الحقيقية الخارجية.

 

هذا حال الإنسان في نشأة المادة والطبيعة من التعلق التام بمعان وهمية سرابية هي المتوسطة بين ذاته الخالية عن الكمالات وبين الكمالات الطارية اللاحقة بذاته.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد