علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سيد جاسم العلوي
عن الكاتب :
كاتب ومؤلف في العلوم الفيزيائية والفلسفية، حاصل على البكالوريوس و الماجستير في علم الفيزياء من جامعة الملك فهد للبترول و المعادن حاصل على الدكتوراه من جامعة درهم (بريطانيا) في الفيزياء الرياضية.

التطور التاريخي لفيزياء الجسيمات الأولية (2)

إن المفهوم الكوانتي للقوة المؤثرة على حركة الأجسام يختلف عن المفهوم النيوتيني وكذلك عن المفهوم الهندسي للقوة التي وضعت أساسه النظرية النسبية العامة. ففي المفهوم الكوانتي هناك جسيمات تحمل القوة المؤثرة على جسمين. وهناك علاقة رياضية تربط بين المدى الذي تؤثر فيه القوة والكتل الحاملة لهذه القوة. فكلما كان المدى كبيرًا كانت الكتلة صغيرة والعكس صحيح. فالقوة التي يكون مداها لا نهائيًّا لا يكون للحامل لها كتلة. فالقوة الكهرومغناطيسية تمتد إلى مالا نهاية ولذا فإن الفوتون الضوئي الحامل لهذه القوة ليس له كتلة.

 

وإذا كان المدى الذي تؤثر فيه القوة معروفًا فإن هناك طريقة لحساب الكتلة الحاملة له. وبهذه الطريقة تمكن العالم الياباني هايديكي يوكاوا Hideki Yukawa في العام 1932 أن يحسب الكتلة الحاملة للقوة النووية strong force بين النويات ( البروتنات والنيوترونات)، وقد وجد أن هذه الكتلة الحاملة عبارة عن سبع كتلة البروتون ويمكن أن تكون موجبة أو سالبة أو متعادلة وسمي هذا الجسيم الحامل للقوة النووية بالـ (البايون pion  π). وفي العام 1950 اكتشف سيسل باول Cecil Powell البايون المشحون والبايون المتعادل وبنسب الكتل ذاتها التي تنبأ بها يوكاوا.

 

في أثناء البحث عن البايون اكتشف العلماء بالمصادفة جسيمًا له تسع كتلة البروتون!، ويعرف هذا الجسيم بـ (الميون muon  µ). ويأتي الميون على نوعين الموجب و السالب، ومن المعروف أن البايون ينحل إلى الميون.

 

كانت ظاهرة انحلال أشعة بيتا النووية في العشرينيات من القرن العشرين محيرة للعلماء لأنها تتناقض مع قانون “حفظ الطاقة” وقانون “كمية الحركة”. فعندما ينحل النيوترون إلى البروتون والإلكترون فإن طاقة النواتج لا تساوي طاقة النيوترون المنحل كما أن قانون حفظ كمية الحركة يفترض أن تكون حركة البرتون والإلكترون في اتجاهين متعاكسين ولكن الغرفة الغيمية أثبتت أن حركتهما ليست كذلك.

 

كان العلماء أمام خيار صعب للغاية فإما أن يتخلوا عن قانون حفظ الطاقة وقانون حفظ كمية الحركة أو أن يقبلوا فرضية وولفغانغ باولي Wolfgang Pauli التي تفترض وجود جسيم له كتلة صغيرة جدًّا أو ربما ليس له كتلة ولم تستطع الكواشف detectors أن تلتقطه أثناء التجربة. وبالفعل تم اكتشاف هذا الجسيم الذي سمي بال ـ ( النيوترينو neutrinoν) في العام 1956 وتعني بالإيطالية الأجسام الصغيرة المتعادلة.

 

يوجد ثلاثة أنواع من النيوترينو، الإلكترون – نيوترينو ( νe )، الميون – نيوترينو ( νµ )، والتاو – نيوترينو (VZ) جسيم التاو tau كان قد تم اكتشافه في العام 1975 وله كتلة البروتون ويأتي على نوعين الموجب والسالب. وبما أن الإلكترون والميون والتاو لها خصائص متشابهة فقد وضعوها مع النيوترونات التابعة لكل واحد منها في مجموعة واحدة تسمى لبتونز Leptons.

 

كان ينظر إلى البروتونات والنيوترونات لأكثر من ثلاثين سنة على أنها جسيمات أولية بمعنى أنها جسيمات نقطية بدون أي بناء داخلي. ولكن التجارب التي تضمنت تصادم البروتونات بعضها مع بعض أو مع الإلكترونات بسرعات عالية أثبتت أنها تتكون من جسيمات صغيرة جدًّا سميت بالـ الكوارك quarks. وقد منح غيل مان Gullmann جائزة نوبل في العام 1969 لأبحاثه التي قام بها في هذا المجال حيث استطاع أن يبني نظامًا خاصًّا بهذه الكواركات quark model يفسر من خلالها كل الجسيمات المعروفة في ذلك الوقت.

 

يوجد في العالم ستة أنواع flavors من الكوارك (up(u) ، down(d) ، strange(s) ، charm(c) ، bottom(b) ، top(t. الثلاثة أنواع الأولى اكتشفت في الستينات أما الأنواع الثلاثة المتبقية فقد اكتشفت في الأعوام 1974، 1977، 1995 على الترتيب. الكوارك u يتشابه إلى حد كبير مع الكوارك c و الكوارك t إلا أن الأخيرين لهما كتلة أكبر. ويتشابة كذلك الكوراك d مع الكواركين الـ s والـ b. وتصنف الكواركات مع البروتونات إلى ثلاثة عوائل أو أجيال. ويقوم هذا التصنيف على أساس التشابه الكبير بين الجسيمات المكونة للعوائل الثلاث إلى الحد الذي يمكن أن نقول أن هذه الجسيمات مستنسخة ولكن الاختلاف بينهم في تصاعد قيمة الكتلة. العائلة الأولى تتكون من (u, d, e–, νe) والعائلة الثانية تتكون من (c,s,µ–,νµ) والعائلة الثالثة تتكون من (t,b, , VZ).

 

إذن البروتونات والنيوترونات ليست جسيمات أولية أساسية في بناء الطبيعة. فالبروتون يتكون من ثلاث كواركات، إثنين منهما من النوع u وواحد من النوع d (البروتون uud) أما النيوترون فيتكون أيضًا من ثلاثة كواركات، إثنين منها من النوع d وواحد من النوع u ( النيوترون udd ). وباستخدام مسارعات الجسيمات particle accelerators يمكن أن نحصل على جسيمات أخرى تدخل في مكوناتها الأنواع الأخرى من الكوارك (strange, charm, bottom top) ولكن هذه الجسيمات تكون لها كتل كبيرة وغير مستقرة وسرعان ما تنحل إلى البروتونات والنيوترونات.

 

لكل جسيم دوران مغزلي محدد القيمة – كوانتي quantized – كما أثبتت الميكانيكا الكوانتية quantum mechanics ذلك وبحسب قيمة الدوران تصنف الجسيمات إلى مجموعتين (ويجب أن لا نفهم الدوران المغزلي بالطريقة التقليدية، بل إن المعنى يكتنفه الغموض. في المفهوم التقليدي يحصل الدوران الكامل عندما يدور الجسم 360 درجة ولكن في الفيزياء الكوانتية quantum physics كل شي يبدو غريبًا ولا يتوافق مع بديهيات أفكارنا فقد يحصل الدوران الكامل عندما يتحرك الجسم 270 درجة أو 180 درجة أو 90 درجة) المجموعة الأولى تتكون من الجسيمات التي قيمة دورانها المغزلي أنصاف الأعداد الصحيحة ( 1/2, 3/2, 5/2,… ) وتسمى بـ فيرميونز fermions والمجموعة الثانية تتكون من الجسيمات التي يكون دورانها المغزلي من مضاعفات الأعداد الصحيحة (0,1,2,…) وتسمى بـ بوزونز bosons. إن جسيمات البوزونز هي المسؤولة عن حمل القوى التي تتفاعل من خلالها المنظومات الكوانتية المختلفة، بينما الفيرميونز هي الجسيمات التي تؤلف مادة الكون.

 

النظرية الكونتية quantum theory تختلف في تفسيرها للقوة عن رؤية آينشتين المبنية على الشكل الهندسي والتي حققت نجاحًا كبيرًا في المنظومات الكبيرة كالكواكب والنجوم والمجرات ولكنها أخفقت على صعيد الذرات والجسيمات الدقيقة. وتعرض النظرية الكوانتية رؤية بديلة وشمولية للقوى أو التفاعلات التي تحدث فيما بين المنظومات الصغيرة والكبيرة فيما يعرف بنظرية التوحيد الكبيرة grand unification theory. فالقوى بحسب هذه النظرية تتكون نتيجة تبادل كميات محددة من الطاقة تسمى كوانتا.

 

وتختلف القوى باختلاف نوع الكوانتا المتبادلة، فالقوى الضعيفة weak force سببها تبادل نوعية من الكوانتا هي جسيمات w و z، والقوة النووية strong force التي تربط بين الكواركات المؤلفة للبروتون أو النيوترون تتبادل نوعية من الكوانت هي الغلاوون gluons ويمتد تأثير هذه القوة الناتجة من تبادل الغلاوون ليحفظ البروتونات والنيوترونات في النواة الواحدة ضد قوة التنافر الكهربائية بين البروتونات فتتبادل جسيم البايون كما ذكرنا آنفًا. أما القوة الكهرومغناطيسية التي تحدث بين الشحنات الكهربائية فتتبادل الفوتون. والبحث العلمي قائم في الكشف عن الغرافتون باعتباره الجسيم الوسيط الناقل لقوة الجاذبية بين الأجسام.

 

وبعد هذا السرد التاريخي نعود إلى السؤال الأساسي ما هي الجسيمات التي تمثل اللبنات الأولى في بناء المادة؟ بالطبع ليس في استطاعتنا أن نقدم الدليل الحسي المباشر على هذا السؤال الكبير لأن الفوتون الضوئي الذي يقع تردده في مدى الرؤية البشرية أكبر بكثير من حجم الذرة وبالتالي فإننا لا نستطيع من خلال النظر التعرف على مكونات الذرة. الحس بوحده بمعزل عن العقل وقوانينه المستقلة لا يمكن أن يقودنا إلى هم الطبيعة وأسرارها. وبالعقل والحس معًا دلت الأبحاث على أن هناك ثلاثة جسيمات أساسية مسؤولة عن بناء المادة التي نراها من الكون وهي الإلكترون والـ up كوارك و الـ down كوارك. ولكن هل هذه هي نهاية المطاف والبحث المضني الذي أخذ الكثير من جهود العلماء والفلاسفة على امتداد عمر الإنسان على هذه الارض! هل هذه الجسيمات الثلاثة هي البذور التي تنمو منها الطبيعة وتتشكل؟ هل هي ذرات ديمقراطيس التي لا تقبل الانقسام كما تصورها قبل 2500 سنة أم أن البحث لا يزال قائمًا وأن النهاية القطعية لم تلح في الأفق بعد؟

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد