قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد صنقور
عن الكاتب :
عالم دين بحراني ورئيس مركز الهدى للدراسات الإسلامية

{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ودعوى احتباس الوحي (1)

المسألة:

 

ما هي خلفيَّات نزول الآية المباركة من سورة الضحى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}(1) فقد رُوي أنَّ الوحي قد احتبس عن النبيِّ (ص) في أوائل الدعوة فجزع النبيَّ (ص) لذلك، وتمسَّك بعضُ المستشرقين بهذه الروايات لإثبات أنَّ النبيَّ (ص) قد انتابه الشكُّ في أنَّه نبيٌّ قبل أنْ تنزل عليه سورة الضحى لتطمينه.

 

الجواب:

 

ما رُوي حول أجواء وأسباب نزول سورة الضحى:

 

نبدأ قبل الجواب بالإشارة إلى ما قيل أو رُوي حول أجواء وأسباب نزول هذه السورة، فقد قيل: إنَّ الوحي بالقرآن قد احتبس عن النبيِّ الكريم (ص) زمناً بعد نزول سورة العلق في حراء فجزع لذلك جزعاً شديداً فقال له المشركون: "ما نرى ربَّك إلا قد قلاك" -أي أبغضك- أو قالوا : "ودَّعه ربُّه وقلاه" وعلى إثر ذلك نزلت الآية أو السورة(2) وقيل: إنَّ الذي قال له ذلك هي السيِّدةُ خديجة قالت بعد أنْ أبطأ عليه الوحي بعد نزوله الأول: "ما أرى ربَّك إلا قد قَلاك"(3) وقيل: إنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلم رُميَ بحجرٍ في إصبعه، فقال: هل أنت إلا إصبع رُميت، وفي سبيل الله ما لقيت، فمكث ليلتين، أو ثلاثاً لا يُوحى إليه. فقالت له أمُّ جميل بنتُ حرب امرأةُ أبي لهب: يا محمد! ما أرى شيطانَك إلا قد تركك، لم أره قربَك منذُ ليلتين، أو ثلاث! فنزلت السورة(4) وقيل اشتكى – توعَّك - رسولُ الله (ص) فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً فجاءت امرأةٌ فقالتْ: يا محمد إنِّي لأرجو أنْ يكون شيطانُك قد تركك، لم أرَه قربَك منذُ ليلتين أو ثلاثاً، فأنزل اللهُ عزَّوجل  {وَالضُّحَى*وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى*مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}"(5) وقيل: احتبس جبريلُ على النبيِّ (ص) فقالتْ امرأةٌ من قريش أبطأ عليه شيطانُه فنزلت: {وَالضُّحَى*وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى*مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}(6) 

 

اضطراب الأقوال قي مدَّة احتباس الوحي:

 

هذا وقد اختلفت أو قل اضطربت الأقوال في مدَّة احتباس الوحي عن النبيِّ الكريم (ص) فقيل: احتبس ليلتين أو ثلاثاً كما تقدَّم، وقيل أربعة أيام، وقيل احتبس الوحيُ اثني عشر يوماً، وقيل ثلاثة عشر يوماً، وقيل: احتبس خمسة عشر يوماً، وقيل تسعة عشر يوماً وقيل: خمسة وعشرين يوماً، وقيل: أربعين يوماً(7).

 

ما قيل في منشأ احتباس الوحي:

 

واختلفت الأقوال أيضاً في منشأ الإبطاء والاحتباس:

 

فمنها: إنَّ منشأ ذلك هو أنَّ المسلمين لا يتنظَّفون ولا يُقلِّمون أظفارهم، فقد قيل إنَّ المسلمين قالوا: ما ينزل عليك الوحي يا رسول الله ؟ فقال: وكيف ينزلُ عليَّ الوحيُ وأنتم لا تُنقُّون براجمَكم، ولا تُقلِّمون أظفارَكم"(8)

 

وقال مجاهد: أبطأ الملك على رسول الله (ص) ثم أتاه فقال: ما الذي أبطأك؟ قال: كيف نأتيكم وأنتم لا تقصُّون أظفاركم، ولا تأخذونَ مِن شواربكم، ولا تُنقُّون رواجبَكم، ولا تَستاكون(9).

 

ومنها: أنَّ منشأ الاحتباس هو أنَّ جرواً دخل بيت النبيِّ (ص) فمات تحت السرير، رُوي ذلك عن خولة، وكانت خادمة رسول الله (ص) قالتْ: إنَّ جرواً دخل البيت، فدخل تحتَ السرير فمات، فمكثَ نبيُّ الله (ص) أياماً لا ينزلُ عليه الوحيُ، فقال: يا خولة ما حدثَ في بيتي. جبريلُ عليه السلام لا يأتيني؟ فقالتْ خولة: لو هيأتُ البيت وكنستُه فأهويتُ بالمكنسة تحت السرير فإذا شيءٌ ثقيل، فلم أزل حتى أخرجتُه، فإذا جروٌ ميِّت، فأخذتُه فألقيتُه خلف الجدار، فجاء نبيُّ الله (ص) ترعدُ لِحياه، وكان إذا نزل عليه الوحيُ استقبلتْه الرِعدة فقال: يا خولة دثريني، فأنزل الله تعالى: {وَالضُّحَى*وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى *مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}"(10) 

 

ومنها: إنَّ منشأ احتباس الوحي عنه هو أنَّ اليهود أو أنَّ مشركي قريش سألوه بإيعازٍ من اليهود عن قصَّة أصحاب الكهف، وعن قصَّة ذي القرنين، وعن الروح فقال: سأخبركم غدًا. ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحيُ هذه الأيام، فاغتمَّ لشماتة الأعداء، فنزلت السورة تسليةً لقلبِه(11).

 

تفنيد دعوى احتباس الوحي وأنَّه لم يحتبس قط:

 

هذا حاصل ما قيل ورُوي حول أجواء وأسباب نزول السورة المباركة، وشيءٌ ممَّا ذكر في ذلك لا يصحُّ، فإنَّ الوحي لم يحتبس عن رسول الله (ص) منذُ بدأ بالنزول في ليلة القدر إلى أنَّ تمَّ نزول القرآن المجيد قبل رحيله صلَّى الله عليه وآله إلى ربِّه، غايته أنَّ القرآن لم يكن ينزلُ على النبيِّ الكريم (ص) في كلِّ ساعة أو في كلِّ يوم، وليس لِما بين النزول والنزول الآخر وقتٌ منضبِط، فقد ينزلُ عليه في اليوم مرَّتين أو أكثر، وقد لا ينزلُ عليه في الشهر مرَّةً واحدة، فنزولُ الآيات والسُّوَر على قلب رسول الله (ص) خاضعٌ لأسبابه التي تفرضُها المشيئة الإلهيَّة، وتقتضيها الوقائعُ والنوازل، وخاضعٌ لما تقتضيها حكمةُ التدرُّج في التشريع وبيان المعارف، وقد نصَّ القرآن المجيد على أنَّ إرادة الله تعالى قد اقتضت إنزال القرآن مفرَّقاً وعلى مُكثٍ كما قال تعالى: {وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}(12) وقال جلَّ وعلا في سورة الفرقان:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}(13) أي أنزلناه مفرَّقاً بحسب مقتضيات الأسباب والأحوال ولم نُنزله جملةً واحدة لأنَّ في إنزاله مفرَّقاً وعلى مراحل تثبيتاً لفؤادِ النبيِّ الكريم (ص) وإرفاقاً به فيتسنَّى له بذلك الاتئاد والتأنِّي في تبليغِه وتحفيظِه والبيان لمقاصده. هذا أولاً.

 

مناقشة تفصيلية لدلالة الروايات:

 

وثانياً: إنَّ مجمل ما قيل أو رُوي أنَّه وقع في أجواء نزول الآية:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} مضافاً لضعف أسانيده وعدم قابليَّة بعضِه للتصديق فإنَّه لا يدلُّ على احتباس الوحي عن النبيِّ الكريم (ص) فما قيل إنَّ المشركين قالوا للنبيِّ الكريم (ص) لما احتبس عنه الوحي "ما نرى ربَّك إلا قلاك" غير قابلٍ للتصديق، فمِن أين للمشركين العلم بأنَّ الوحي قد احتبس عن النبيَّ (ص) خصوصاً وأنَّ الدعوى هي أنَّ الاحتباس وقع بعد نزول سورة العلق والتي هي أولُ القرآن نزولاً، وفي هذا الظرف وإلى وقتٍ طويل لم يصدع أو قل لم يجهر النبيُّ (ص) بالدعوة، فالمشركون لا يعلمونَ في هذا الظرف بأنَّ النبيَّ (ص) قد بُعثَ وأنَّ الوحيَ بالقرآن قد بدأ بالنزول على قلبِه.

 

ولو فُرض أنَّ نزول سورة الضحى قد وقع بعد الإعلان عن الدعوة فإنَّه لا طريقَ للمشركين يتعرَّفون منه على احتباس الوحي عن النبيِّ الكريم (ص) ولم تشتمل الرواية على دعوى أنَّ النبي (ص) قد أخبرهم عن ذلك ليقولوا ساخرين "إنَّ ربَّك قد قلاك"، نعم مِن الممكن أنَّهم حين وجدوا أنَّ النبيَّ (ص) لا يتلو عليهم آياتٍ أو سوراً غير التي كان يتلوها عليهم ظنُّوا أنَّ الوحي قد احتبس عن النبيِّ (ص) لكنَّ هذا الظنَّ منهم لا يدلُّ على أنَّ الواقع كان كذلك، فهم لا يعلمون متى ينزلُ عليه الوحي، وما هي موجبات نزوله، وهل يتلو عليهم كلَّ ما كان ينزل عليه، ولم يتعهَّد النبيُّ (ص) لهم أنْ يأتيهم كلَّ يومٍ أو كلَّ أسبوع أو شهرٍ بآية أو سورة فإذا لم يفعل كان ذلك مؤشِّراً على الاحتباس ، فقولهم : "إنَّ ربك قد قلاك" – لو صحَّ صدورُه عنهم- لا يعدو كونه واقعاً في سياقِ المناكفة للرسول (ص) والحرب النفسيَّة له ولمَن آمن به.

 

وأمَّا ما قيل من أنَّ السيِّدة خديجة (ع) هي مَن قالت للنبيِّ الكريم (ص): "ما أرى ربَك إلا قد قلاك" فهو غير قابلٍ للتصديق أيضاً، فالسيِّدةُ خديجة (ع) أجلُّ وأعظمُ شأنًاً وأسمى خُلقاُ من أنْ تُواجهَ النبيَّ (ص) بمثل هذا القول الشنيع، فإنَّ معنى هذه المقولة هو أنَّ الله تعالى قد أبغضَك، فمعنى القِلى هو البُغض الشديد والحنَق والغاية في الكراهة، فهي بهذه المقولة تُؤكِّد كما هو مدلول النفي والإثبات والتصدير بقد، تؤكدُ أنَّ الله تعالى قد أبغض النبيَّ الكريم (ص) وحنَق عليه فهجره وصرمَه، وكيف تجسرُ على التفوُّهِ بذلك وقد آمنتْ به وصدَّقتْ بنبوَّته ؟! وأيقنتْ دون ريب أنَّه رسولُ اللهِ وخالصته.

 

ولو فرضنا جدلاً القبول بأنَّها قالتْ ذلك – وهو غيرُ مقبول- فهو لا يدلُّ على احتباس الوحي واقعاً عن النبيِّ الكريم (ص) وإنَّما يدلُّ على أنَّها توهَّمت ذلك بسبب أنَّها لم تسمع النبيَّ (ص) لبرهةٍ من الوقتِ يتلو آياتٍ غيرَ التي كان يتلوها. فلعلَّها كانت تظنُّ أنَّ الآيات سوف يتواترُ ويتلاحقُ نزولُها على النبيِّ (ص) فلمَّا لم تجد ذلك توهَّمتْ أنَّ الوحيَ قد احتبسَ عن النبيِّ (ص) .

 

وأمَّا ما قيل من أنَّ النبيَّ الكريم (ص) قد أُصيب في إصبعه، فمكثَ ليلتين، أو ثلاثاً لا يُوحى إليه. فقالت له أُمُّ جميل امرأةُ أبي لهب: "ما أرى شيطانَك إلا قد تركك، لم أره قربَك منذُ ليلتين"، فهو كذلك لا يدلُّ على الاحتباس – كما ادُّعي- فهو لا يدلُّ على أكثر من وقاحةِ هذه المرأة، وسوءِ خلقها، ثم إنَّه من أين لها العلم بأنَّ النبيَّ (ص) لم يُوحَ إليه ليلتين أو ثلاثاً ؟! ولو ثبتَ أنَّه لم يُوحَ إليه ليلتين أو ثلاثاً فهل يُعدُّ ذلك من احتباس الوحي بالقرآن؟! فلو كان الاحتباس يتحقَّق بعدم النزول ليلتين أو ثلاثاً لكان مقتضى ذلك أنَّ ما نزل من آيات القرآن – بعد انتهاء الاحتباس والذي لم يمتدْ بحسب هذه الرواية لأكثر من ثلاث ليال- يفوق بمراتب كثيرة وكثيرة ما عليه حجم القرآن والذي استمرَّ نزوله لأكثر من عقدين من الزمن.

 

وممَّا ذكرناه اتَّضح وهنُ ما رُوي من أنَّ امرأة من قريش خاطبت النبيَّ (ص) بقولها: إنِّي لأرجو أنْ يكون شيطانُك قد تركك، فكلُّ ذلك وشبهه لا يدلُّ على وقوع الاحتباس للوحي الذي بنى عليه بعضُ المستشرقين ما زعمه من أنَّ النبيَّ (ص) شكَّ حين الاحتباس بنبوَّتِه. ثم إنَّه لو تمَّ التسليم جدلاً أنَّ هذه الروايات أو بعضها تدلُّ على وقوع الاحتباس لبرهةٍ من الوقت لكنَّه ليس فيها دلالة بل ولا إشعار بأنَّ النبيَّ (ص) قد انتابه الشكُّ في نبوَّتِه بسبب احتباس الوحي، نعم هي تدلُّ على أنَّ المشركين قد اتَّخذوا من الاحتباس – لو وقع- مدخلاً لإيذاء النبيِّ (ص) والتهكم به، وذلك منتظَرٌ من كلِّ مناوئٍ يفتقرُ لأدنى درجاتِ اللِّياقة والأدب، وقد عانى الأنبياءُ على امتدادِ تاريخ الرسالات من أمثال هؤلاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- سورة الضحى: 3.

2-جامع البيان عن تأويل آي القرآن – ابن جرير الطبري- ج30/ 291. الدر المنثور- السيوطي-ج6/ 360.

3-جامع البيان عن تأويل آي القرآن – ابن جرير الطبري- ج30/ 291، 319.المستدرك على الصحيحين - الحاكم النيسابوري-ج2/ 611.

4- تفسير محمع البيان - الطبرسي- ج10/ 381،المستدرك على الصحيحين - الحاكم النيسابوري-ج2/ 527

5-صحيح البخاري- البخاري- ج6/ 97، السنن الكبرى- البيهقي-ج3/ 14.

6-صحيح البخاري- البخاري-ج2/ 43، ج6/ 86، 97، صحيح مسلم - مسلم النيسابوري-ج5/ 182، دلائل النبوة - البيهقي- ج7/ 58.

7-الجامع لأحكام القرآن- القرطبي- ج11/ 128. تفسير الرازي- فخر الدين الرازي-ج 31/ 211،

8-الجامع لأحكام القرآن- القرطبي-ج20/ 93، اتفسير مجمع البيان- الطبرسي- ج 10/ 381، شعب الإيمان- البيهقي- ج3/ 24،

9-أسباب النزول - الواحدي النيسابوري- ص203، الجامع لأحكام القرآن- القرطبي- ج11/ 128.

10- أسباب النزول- الواحدي النيسابوري- ص302، الدر المنثور- السيوطي- ج6/ 361، وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده والطبراني وابن مردويه عن أم حفص عن أمها وكانت خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ان جروا دخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فدخل تحت السرير فمات فمكث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي فقال يا خولة ما حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل لا يأتيني فقلت يا نبي الله ما أتى علينا يوم خير منا اليوم فاخذ برده فلبسه وخرج فقلت في نفسي: لو هيأت البيت وكنسته فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا بشئ ثقيل فلم أزل حتى بدا لي الجرو ميتا فاخذته بيدي فألقيته خلف الدار فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ترعد لحيته وكان إذا نزل عليه أخذته الرعدة فقال يا خولة دثريني فأنزل الله عليه والضحى والليل إذا سجى إلى قوله فترضى"

11-الجامع لأحكام القرآن- القرطبي-ج20/ 93،

12-سورة الإسراء: 106.

13- سورة الفرقان: 32

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد